بعد أن تحولت قارة إفريقيا إلى منطقة نفوذ كبرى للصين وروسيا، إثر إنحسار ملحوظ للنفوذ الفرنسي التقليدي في القارة السمراء، وغياب للدور والنفوذ الأمريكي طيلة السنوات والعقود الماضية، تسعى إدارة الرئيس جو بايدن لمحاولة مداواة الإهمال الطويل لإفريقيا واللحاق بالركب الصيني والروسي، الذي عزز علاقاته مع العواصم الإفريقية بقوة خلال الفترة الماضية.
إستضافت واشنطن مؤخراً قمة ضمت 49 من القادة الأفارقة، في محاولة لتعزيز النفوذ الأمريكي في قارة باتت تحتل الصين وروسيا فيها مكانة بارزة، حيث تعهدت الولايات المتحدة خلال القمة بتخصيص 55 مليار دولار للدول الإفريقية على مدى ثلاث سنوات.
وأعلنت إدارة الرئيس بايدن منح 4 مليارات دولار بحلول عام 2025 للتوظيف وتدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية في إفريقيا، لإستخلاص العبر من أزمة وباء كوفيد-19ـ وتطرقت القمة كذلك إلى مسألة إستكشاف الفضاء مع توقيع نيجيريا ورواندا إتفاقيات أرتميس (برنامج تقوده الولايات المتحدة لإعادة البشر إلى القمر بحلول عام 2025، بهدف أوسع هو توسيع مبادرات إستكشاف الفضاء)، وهما أول دولتين إفريقيتين تُقدمان على مثل هذه الخطوة.
السؤال الأكثر أهمية على خلفية هذه القمة يتعلق بقدرة الولايات المتحدة على تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية ومواجهة النفوذ الصيني والروسي هناك، وهنا يمكن الإشارة إلى عوامل وإعتبارات عدة بعضها يصب في مصلحة الجهود الأمريكية وبعضها يتنافر معها. وفي مقدمة العوامل الداعمة للجهود الأمريكية يمكن رصد المساعدات والبرامج التمويلية الضخمة في حال الوفاء بها فعلياً، وكذلك العلاقات التقليدية التي تربط واشنطن بالعديد من عواصم القارة الإفريقية، فضلاً عن دور الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، الذي تعاني منه مناطق عديدة في القارة الإفريقية لاسيما شرق القارة وغربها. وفي مقابل ذلك هناك عوامل مضادة يمكن أن تحد من فاعلية الجهود الأمريكية في إفريقيا منها الموقف الأمريكي من ملفات حساسة بالنسبة للدول الإفريقية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، حيث يعد هذا الملف أحد محركات القبول بالنفوذ الصيني (بجانب خطط التمويل والقروض الائتمانية) والروسي (مكافحة الإرهاب من خلال عناصر "فاغنر") فبكين وموسكو لا تتدخلان في الشأن الداخلي للدول الإفريقية ولا تناقشان طبيعة النظام الحاكم في قارة تغلب على أنظمتها الطبيعة العسكرية والإنقلابات وغير ذلك من أمور تضع علاقات دولها دائماً على المحك مع العواصم الغربية ولاسيما واشنطن، التي لا تزال تتبنى قانوناً وضع منذ نحو عقدين ويمتد لعام 2025، ويربط إزالة الرسوم الجمركية بالتقدم الديمقراطي! ومن الواضح أن واشنطن لا تزال تتمسك بهذه السياسة رغم الإعلان عن التغيير، ومثال ذلك أن الخارجية الأمريكية قد أشارت في بيان حول لقاء عقد بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن على هامش القمة، إلى أن الوزير الأميركي أثار مع الرئيس المصري موضوع إحترام حقوق الإنسان في مصر، مؤكّداً أنّ "العلاقات الثنائية تصبح أقوى بإحراز تقدّم ملموس" في هذا المجال، وهو ما يعكس إرتهان موضوع كطلب مصر دعماً أمريكياً لتسوية أزمة سد النهضة بالتقدم في ملفات أخرى مثل حقوق الإنسان الذي أصبحت الملف "البوصلة" للعلاقات بين واشنطن ودولاً أخرى منها الإفريقية!
القمة الأمريكية ـ الإفريقية ليست استنساخاً لجهود قوى دولية أخرى على هذا الصعيد، فهي القمة الثانية، حيث سبق أن إنعقدت القمة الأولى قبل ثماني سنوات في عام 2014 خلال فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما، في حين شهدت إفريقيا تجاهلاً تاماً خلال فترة رئاسة ترامب.
الملاحظ أن إدارة بايدن تتبنى خطاباً سياسياً مختلفاً نسبياً في إعادة صياغة علاقاتها مع دول القارة الإفريقية، حيث تدعو إلى تعزيز دور القارة دولياً بحصولها على مقعد في مجلس الأمن وإلى تمثيلها رسمياً في قمة مجموعة العشرين، وتحدث وزير الخارجية الأمريكي عن إستراتيجية أمريكية جديدة حيال إفريقيا عنوانها "الشراكة"، والإعلان عن إصلاح شامل في السياسة الأمريكية حيال دول جنوب الصحراء لمواجهة النفوذ الصيني والروسي.
وبلاشك أن الولايات المتحدة لديها فرص قوية لتعزيز نفوذها في قارة إفريقيا من مداخل مختلفة أبرزها دعم جهود الدول الإفريقية على صعيد مكافحة الإرهاب، وبناء شراكات تنموية حقيقية مع إفريقيا جنوب الصحراء، والإسهام الفاعل في تسوية نزاعات مؤثرة إفريقياً مثل أزمتي تيغراي، وسد النهضة، المرتبطتان بأثيوبيا، والخلافات البينية بين بعض الدول الإفريقية، ودعم إستقرار دول مثل الكونغو الديمقراطية، التي تواجه تمرداً يهدد إستقرار البلاد، فضلاً عن معالجة تداعيات التغير المناخي الذي يعتبر أحد أبرز مشاكل القارة الإفريقية، وكذلك الفقر وأزمة الغذاء التي تفاقمت إفريقياً بسبب المناخ وأزمة أوكرانيا.
رغم أن الخطاب السياسي الأمريكي في القمة الإفريقية كان مختلفاً حيث كشف الرئيس بايدن عن إستثمار أكثر من 55 مليار دولار في القارة، ووعود من الشركات الأمريكية باستثمار أكثر من 15 مليار دولار في إفريقيا، وقال إنه "عندما تنجح إفريقيا، تنجح الولايات المتحدة، والعالم بأسره ينجح"، وتجنب تماماً ذكر الصين وأوضح أن بلاده ستتبنى مقاربة مختلفة، من خلال شراكات بعيدة عن التبعية وتهدف لتحفيز الفرص النجاح المشترك، فإنه قد تحدث أيضاً عن الحكم الرشيد وتأثيره على التجارة، وهو ما يضع السياسة الأمريكية في مقارنة مباشرة مع الصين التي تنتهج سياسة تقوم على عدم التدخل في شؤون الدول التي تستثمر فيها، ناهيك عن أن إستثمارات بكين قد تجاوزت نظيرتها الأمريكية، حيث تبلغ قيمة القروض التي منحتها الصين للدول الإفريقية منذ عام 2000 نحو 120 مليار دولار، وهو ماتعتبره الولايات المتحدة "فخ ديون"، يزعزع إستقرار القارة السمراء.
حصاد القمة الإفريقية ـ الأمريكية يمثل إعلان نوايا يظل قيد الإختبار من أصحاب الشأن أنفسهم، وهم الدول الإفريقية، التي ترى نفسها ساحة للتنافس الجيواستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا، التي إستضافت كذلك قمة للقادة الأفارقة في يونيو الماضي، والصين التي قام رئيسها بأربع زيارات للقارة الإفريقية، فضلاً عن تبني بكين مبادرات إعفاء بعض دول الإفريقية من سدان ديونها رداً على إتهامات فخ الديون التي تروج لها الولايات المتحدة.