في استطلاع للرأي أجراه "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" مؤخراً، ظهر الإنقسام الحاد بين الأمريكيين بشأن مواصلة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا، حيث أظهرت نتائج الإستطلاع أن نسبة من يعتقدون أن على واشنطن حث كييف على التفاوض مع موسكو قد إرتفعت إلى 47%، أما الذين يعتقدون أن على الولايات المتحدة مواصلة دعم أوكرانيا طالما دعت الحاجة لذلك فانخفضت إلى 48%، وهذا يعني بوضوح تقارب المواقف، وتآكل ما كان يوصف إعلامياً بالدعم الشعبي الغربي لقرار دعم أوكرانيا.
ولاشك أن تقارب نسبتي التأييد والرفض بشأن دعم الحرب والسلام قد يمثل محدداً مهماً في أي قرار مستقبلي يتعلق ببناء الموقف من الحرب الدائرة في أوكرانيا، ولكن قد لا يحدث هذا التغير تأثيراً لدى الإدارة الحالية للرئيس جو بايدن (ما لم تحدث معارضة جمهورية في مجلس الشيوخ) بالنظر إلى أن نسبة الديمقراطيين المؤيدين لمواصلة دعم أوكرانيا لا تزال عالية للغاية، حيث يؤيد نحو 61% من المستطلعين المنتمين للحزب الديمقراطي مواصلة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا، بينما يحظى الأمر نفسه بتأييد ثلث المستطلعين الجمهوريين فقط، كما يدعم ثلثي الأمريكيين مسألة قبول اللاجئين الأوكرانيين والعقوبات ضد روسيا.
نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون حث أوكرانيا على الجلوس للتفاوض قد إرتفعت خلال الفترة من شهر يوليو (38%) إلى نوفمبر الماضي (47%) وهذا يعني بوضوح تراجعاً بنسبة كبيرة في نسبة تأييد مؤيدي دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وبالتأكيد يمكن أن نجد النسبة ذاتها أو ما يفوقها لدى الشعوب الأوروبية بالنظر إلى أن مركز المعاناة الأكبر جراء هذه الحرب يكمن في أوروبا بالأساس، كما يمكن أن نجده كذلك في روسيا نفسها، بل بين الأوكرانيين، لأن الشعوب تسئم فكرة الحرب والصراع حتى لو كان ذلك دفاعاً عن حقوق مشروعة، وتتجه بعد فترة للنظر في أسباب حياتها ومعيشتها اليومية.
الحاصل الآن ـ إعلامياً وسياسياً ـ أن الإهتمام العالمي بحرب أوكرانيا قد تراجع بنسبة كبيرة، وأن تسليط الضوء عليها بات مرتبطاً بشكل كبير بتداعياتها وتأثيراتها على إقتصادات الدول كافة، بمعنى أن ذكر الحرب او التطرق إليها بات مرتبطاً في أغلب الأحوال بذكر أمور تتعلق بتأثيراتها الإقتصادية ولاسيما على الحياة المعيشية لشعوب معظم دول العالم، في حين ان تناول تطورات الحرب بحد ذاتها قد تراجع بشكل كبير لأسباب يتعلق بعضها بطول أمد الحرب وانصراف الأنظار إلى أمور وقضايا أخرى وهذه طبيعة الأمور، بينما يرتبط بعضها الآخر بعدم وجود تحولات فارقة في مسار الحرب وإنتقال بؤرة الإهتمام الدولي إلى ملفات أخرى قد تكون أقل أهمية من حيث التأثير والتداعيات ولكنها حديثة بدرجة يمكن أن تجعلها مثار إهتمام الإعلام ومتابعيه، الذين يبحثون عن الجديد دائماً.
على الصعيد الشعبي والإعلامي إذاً قد لا تكون حرب أوكرانيا الآن في بؤرة الإهتمام، وهذا طبيعي وهذا لايعني تراجع خطورة الحرب وتأثيرها الإستراتيجي الهائل عالمياً، ولكن على الصعيد السياسي والإستراتيجي فإن هذه الحرب لا تزال تحتل صدارة الإهتمام العالمي بالنظر إلى تأثيراتها التي ترتبط بدورها بقرارات وسياسات وتوجهات دول العالم كافة، لاسيما في المجال الاقتصادي والسياسي.
السؤال الذي يثور على الخلفية السابقة يتعلق بموقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا نفسها تجاه قرار الحرب والسلام، وإلى أي مدى تميل الأطراف إلى سيناريو الجلوس للتفاوض؟، والجواب على ذلك قد يبدو صعباً في ظل الشواهد والظروف الراهنة، ولكن يمكن القول أن هناك إرهاصات تهدئة تبدو على إستحياء رغم حرص الأطراف جميعها على التمسك بمواقفها لأن الكل يدرك أن البدء بإعلان الرغبة في التفاوض قد يكون له ثمن تفاوضي ينبغي تحمله، وهذا ما لا تريده الأطراف كلها التي دفعت أثمان وكلفة باهظة في هذه الحرب، ولكن علينا أن نشير إلى بعض الشواهد التي تبعث برسائل متضاربة لإرباك الطرف الآخر، وفي مقدمة ذلك يأتي الموقف الأمريكي الذي ينفي رسمياً صلته بضربات أوكرانيا ضد قواعد سلاح الجو الروسي يومي 5 و 6 ديسمبر الحالي، فيما يقول بعض الخبراء أن المسّيرات الأوكرانية استخدمت بيانات نظام تحديد المواقع العالمي الأمريكي "جي بي إس" لضرب الأهداف الروسية، حتى أن تقارير إعلامية نقلت عن مصادر داخل حلف "الناتو" نفسه قولهم أن تنفيذ الضربات الأوكرانية يتطلب الحصول على بيانات من الأقمار الصناعية الأمريكية، وذكرت هذه المصادر أن مسّيرات روسية قديمة تم تحويلها إلى صواريخ كروز مزودة بأنظمة توجيه أوكرانية جديدة تعمل وفق بيانات الأقمار الصناعية الأمريكية، وأن أوكرانيا لا تستطيع توجيه هذه الضربات من دون الإعتماد على بيانات أمريكية. وقد تحدثت مصادر الحلف انطلاقاً من رغبة في التحذير من إقتراب الحلف من التورط في حرب أوكرانيا وتحذير الولايات المتحدة من أي ردة فعل روسية في هذا الشأن.
بشكل عام، تبدو الأوساط العسكرية الأمريكية تحديداً أكثر إقتناعاً بأن طرفي الحرب، روسيا وأوكرانيا، لن يستطيعا حسم هذه الحرب خلال المدى المنظور، وهو ما أكده بالفعل الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، وبالتالي فإن المرجح أن ما يحدث حالياً هو لتعزيز المواقف واستنزاف قدرات الطرف الآخر من أجل التعجيل بفرص الجلوس على مائدة التفاوض، ولكن هذا السيناريو يبدو بعيد المنال بأن الرئيس بوتين لن يقر بحدوث تأثير سلبي يدفعه للتفاوض، كما لن تقترب كييف من التفاوض طالما استمر الدعم الغربي، العسكري والمالي!
إستمرار الإنفاق العسكري والمالي الغربي لدعم أوكرانيا قد يدفع العواصم الغربية للبحث عن تسوية سياسية للأزمة بالنظر إلى صعوبة تحمل هذه التكلفة الباهظة في ظل تدهور أوضاع الاقتصادات جميعها بسبب هذه الحرب، ولذا تحرص روسيا على تعزيز موقفها العسكري مهما كانت الخسائر كي تثبت للغرب أن هناك صعوبة حقيقية في دفعها لتغيير موقفها أو حتى إعلان وقف العمليات العسكرية من طرف واحد. والشواهد هنا ترجح صحة رهانات روسيا في ضوء تجدد الحديث عن الطرح الألماني ـ الفرنسي الخاص بتقديم ضمانات أمنية لروسيا بما في ذلك الحياد الأوكراني.
ماسبق لا يعني أن روسيا تجازف بمواصلة الحرب مهما كانت التكلفة لأن الإقتصاد الروسي يعاني هو الآخر، والحرب تفقد دعمها شعبياً وهناك صعوبات أخرى في التجنيد وتعويض فاقد المعدات العسكرية وغير ذلك، وهذا مايفسر تصريحات الرئيس بوتين التي قال فيها أن خطر الحرب النووية يتصاعد، ولكنه أكد في الوقت ذاته أن روسيا "لم تصب بالجنون" ولن تكون البادئة في استخدام أسلحتها النووية، وهو تصريح أقلق الدوائر الأمريكية مجدداً، ولكنه في الحقيقة تصريح لا ينطوي على تصعيد بقدر ماينطوي على تحذير من عواقب التصعيد بجانب رسالة أخرى تتعلق بضرورة البحث عن مخارج لانهاء هذه الحرب، فحرص بوتين على نفي أي تصرف "مجنون" يمثل رداً على بعض التحليلات التي استندت إلى صعوبة التنبؤ بقرارات الكرملين، وكأن بوتين يريد القول أنه يدرك تماماً عواقب الحرب النووية ولن يكون البادىء بها، وهو تصريح عقلاني لا يحمل أي رسالة تهديد.
المعضلة في هذا السجال كله أن هناك خوف حقيقي من أن تدخل حرب أوكرانيا دائرة الحروب المنسية التي تشمل صراعات عديدة حول العالم، او حتى تبقى ضمن المربعات الساخنة التي تراوح بين الحرب والسلام من دون إتفاق ينهي الحرب فعلياً بالنظر إلى عدم وجود أهداف عسكرية لقصفها والخوف من إستهداف المدن والمدنيين بما يجلبه ذلك من إنتقادات دولية، والواقع يقول أن تأثيرات الحرب الكارثية قد تحول بينها وبين النسيان إلى حد كبير، وانها ستبقى في دائرة الإهتمام طالما بقيت تأثيراتها السلبية الخطيرة على الاقتصاد العالمي، الذي تشير تقديرات الخبراء إلى أن يواجه واحدة أسوأ فتراته منذ ثلاثة عقود تقريباً بفعل إرتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب الروسية ـ الأوكرانية.