بعد فترة وجيزة من الزيارة التاريخية المهمة التي قام بها شي جينبينغ الرئيس الصيني للمملكة العربية السعودية، حيث عقد ثلاث قمم (سعودية صينية، وخليجية صينية، وعربية صينية) قام هو تشون هوا نائب رئيس مجلس الدولة الصيني بزيارة إلى طهران، حيث التقى إبراهيم رئيسي، وقال عقب الإجتماع إن "الصين تنظر إلى علاقاتها مع إيران من منظور إستراتيجي ولن تتواني في المضي بتطوير شراكتهما الإستراتيجية الشاملة"، وأن "بكين مستعدة للعمل مع طهران لتنفيذ التوافق الهام الذى توصل إليه رئيسا الدولتين وبذل جهود مشتركة لدفع تنفيذ خطة التعاون الثنائية الشاملة التي تمتد 25 عاماً"، وقد دفع توقيت الزيارة وما تخللها من نقاشات المراقبين لتسليط الضوء على رؤية الصين لعلاقاتها عبر ضفتي الخليج، وكيف يمكن أن تدير هذه العلاقات في ظل تعقيدات الواقع الجيواستراتيجي الراهن.
تحليل الشواهد يشير إلى أنه لا مفاجآت على هذا الصعيد، فالعلاقات الصينية مع إيران من ناحية، ودول مجلس التعاون من ناحية ثانية تمضي منذ سنوات باتجاه متواز تحرص بكين على نجاحه وفاعليته بغض النظر عن معطيات البيئة الإقليمية التي تضع مصالح طرفي العلاقات عبر الخليج أحياناً على النقيض من بعضهما البعض، بمعنى أن أجواء التوتر السائدة التي تطغى على العلاقات الخليجية ـ الإيرانية لا تنعكس على المواقف الصينية ولا على علاقات الطرفين ببكين، لسبب بسيط هو أن الصين لا تركز على الأقل في المرحلة الراهنة على بناء تحالفات إستراتيجية أحادية، بل تستهدف تعزيز التعاون وتقوية المشتركات مع كافة الاطراف، ويكفي أنها تواصل شراكاتها التجارية مع أقوى منافسيها الإستراتيجيين، وهي الولايات المتحدة، فضلاً عن أن دول مجلس التعاون نفسها لا تميل إلى أن تكون الشريك الأوحد في أي علاقة إستراتيجية كي توفر لنفسها بالمقابل هامش حركة دولي واسع، وتراهن على مزاياها التنافسية في الحصول على أولوية تفضيلية في علاقات الشراكة مع جميع الأطراف الدولية.
المسألة أيضاً تتعلق بطبيعة الدور والتوسع الإستراتيجي الصيني سواء في منطقة الخليج العربي أو غيرها، فبكين تعتمد على مداخل إقتصادية وإستراتيجية تحقق مصالح الطرفين معا في كل حالة، ولا تزال بعيدة عن فكرة بناء التحالفات الصفرية القائمة على الإستقطاب والأحادية وصراعات النفوذ التقليدية. صحيح أن التمدد الصيني هو بشكل أو بآخر تجسيد للنفوذ الإستراتيجي الصيني ولكنه لا ينزلق إلى فخ المواجهات الحاجة ويعمل على إدارة المصالح من دون الصدام مع قوى دولية أخرى، تاركاً هذه الأمور لإرادة الشريك الآخر، لتحديد أولوياته الإستراتيجية ونطاقات تعاونه وعلاقاته مع القوى الدولية.
من منظور إستراتيجي أوسع، فإن الصين قوة دولية كبرة تطمح للمنافسة على قيادة العالم سواء أعلنت ذلك أو لم تعلن، وليس من مصلحتها الخوض في إستقطابات حادة قد تضر بمصالحها على المدى القريب أو البعيد، ورغم تفاوت حجم المصالح المتبادلة بين الصين وكل من إيران من ناحية ودول مجلس التعاون من ناحية ثانية، فإنها تبقى بالأخيرة مصالح إستراتيجية مهمة للصين ولا يمكن منح أولوية لطرف دون آخر، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإيران 11 مليار دولار بزيادة سنوية قدرها 19% في العام الأخير، بينما يتجاوز حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون نحو 160 مليار دولار، ولكن الأرقام هنا ليس كاشفة لمجمل المصالح الإستراتيجية الصينية، التي تتجاوز أرقام التبادل التجاري رغم أهميتها الفائقة للطرفين، فإيران بالنسبة للصين على سبيل المثال ليست تبادلاً تجارياً فقط، بل إن بكين تنظر إليها من منظور إستراتيجي يتعلق بإدارة الصراع الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، بل ومجمل علاقات بكين في محيطها الآسيوي.
المؤكد أن إستراتيجية الصين وقوتها الناعمة، التي تبرز من خلال مبادرات مثل "الحزام والطريق" لا تستثني أحداً من الأطراف الإقليمية، ولاسيما المؤثرة منها مثل دول مجلس التعاون وإيران، وبالتالي فبكين قادرة على بناء رؤى ومواقف متوازنة تضمن مسارين متوازيين للعلاقات عبر الخليج من دون أن تضطر للمفاضلة أو الإنحياز لأحدهما دون الآخر، لاسيما أن فكرة الإنحياز نفسها ليست واردة في السياسة الخارجية الصينية، التي نلاحظ أنها تعتمد مواقف داعمة لشركاء مثل روسيا وكوريا الشمالية، ولكن تحرص كذلك على تفادي تحمل تكلفة، أو تورط مباشر قد يترتب على توجهات وسياسات هؤلاء الشركاء، وتبقي مواقفها في إطار دقيق بعيد عن فكرة التحالفات التقليدية بكل ما تمليه من إستقطابات قد تعرقل مسيرة الصين الصاعدة تنموياً وتضعها في مواجهات صفرية حادة مع شركاء إستراتيجيين دوليين يصعب الإستغناء عنهم في الوقت الراهن على الأقل.
بالأمثلة، فإن موقف الصين تجاه أزمة أوكرانيا على سبيل المثال، يوضح بدقة ماسبق، فبكين التي تعتبر أن التعاون الإستراتيجي مع موسكو ليس له حدود نهائية ولا مناطق محظورة، لم تزود روسيا بأي أسلحة ولم تدعمها عسكرياً رغم حاجة روسيا التي اتجهت إلى دول مثل إيران للحصول على "مسيّرات" لإستخدامها في حرب أوكرانيا، إذ نجحت الصين في الإبقاء على الخيوط الرفيعة بين الإبقاء على علاقاتها الاقتصادية مع روسيا وتخفيف حدة العقوبات الغربية على الأخيرة (بلغ حجم التبادل التجاري الصيني ـ الروسي عام 2021 نحو 146 مليار دولار)، من دون التورط في الشق العسكري وبما يضمن الإبقاء على روسيا كمورد حيوي للطاقة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على شراكاتها التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة وحلفائها.
على الجانب الآخر، علينا أن ندرك أيضاً أن الشىء ذاته يحدث خليجياً، بمعنى أنه إذا كانت علاقات إيران مع الغرب تتسم بالتوتر والصدام في أغلب مراحلها وحالاتها، فإن الوضع مختلف تماماً بالنسبة لدول مجلس التعاون حيث لا يزال الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة، شريكاً إستراتيجياً مهماً بالنسبة للدول الست، ومن ثم فإن الشراكة الإستراتيجية مع الصين توفر لهذه الدول هامش مناورة حيوي في تنويع التعاون وبناء السياسات، وقد نجحت عواصم دول التعاون في تثبيت فكرة التعددية والتنوع في إدارة علاقاتها الدولية من خلال بناء شراكات إستراتيجية مع قوى دولية أخرى ـ بخلاف الولايات المتحدة الحليف التقليدي ـ مثل الصين وروسيا وغيرهما.
الخلاصة أن تعاون الصين مع إيران لا يتعارض مع شراكاتها المتنامية مع دول مجلس التعاون، سواء لأن التحالفات الأحادية لم تعد تناسب تعقيدات المصالح الإستراتيجية للدول، أو لأن الطرفين (الخليجي والصيني) معاً يميلان إلى التنويع وبناء قاعدة علاقات دولية قائمة بالأساس على التعاون التجاري والاقتصادي بكل ما يتطلبه من الانفتاح على جميع الأطراف.