رغم أن الأدبيات السياسية قد حفلت خلال الأعوام الأخيرة بتكهنات وتوقعات حول ما وصف بحرب باردة جديدة سيشهدها العالم بين الولايات المتحدة والصين، القوة الصاعدة بوتيرة متسارعة لمناطحة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، فإن الشواهد تقول أن "الحرب" المتوقعة تتمحور في الآونة الأخيرة حول قطاع التكنولوجيا، حيث يحتدم الصراع العالمي حول تقنيات الذكاء الاصطناعي والأسلحة الفرط صوتية والأمن السيبراني والمسّيرات التي تحولت إلى ساحة شرسة للتنافس بحكم فاعليتها المتزايدة في حسم المعارك والصراعات العسكرية. الصراع الآن يتمحور بشكل كبير على فكرة حرمان الخصم الإستراتيجي الفعلي أو المحتمل من أسباب التفوق التكنولوجي، الذي بات العنصر الأهم في الحفاظ على التفوق والنفوذ والهيمنة الإستراتيجية.
المؤشرات تقول إن ركائز التفوق العسكري التقليدية تتداعى في مواجهة التطور الهائل في مجال التكنولوجيا المدنية والعسكرية على حد سواء، حيث تذوب المسافات وتصب جميعها في خانة ضمان التفوق الإستراتيجي بجناحيه المدني والعسكري، تكفي الإشارة إلى أن الأسلحة الفرط صوتية تهدد التوازن الهش القائم على إمتلاك قدرة الرد أو توجيه الضربة الثانية في الوقت الملائم، حيث تقوض السرعة الهائلة لهذه الأسلحة هامش الوقت المتاح لإتخاذ قرار مناسب في ظل اللاوقت بين إنطلاق سلاح فرط صوتي وإكتشافه وقرار الرد، مايعني تقويض معادلات الردع التقليدية التي تضمن التوازن القائم عالمياً منذ الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص.
وهذا النموذج الصراعي يشير إلى دور "الرقائق" في الصراعات الدولية القادمة، فكل التطور المتسارع في تكنولوجيا التسلح يعتمد على صناعة الرقائق، حيث تبدو أسخن جبهات الصراع الأمريكي ـ الصيني في الوقت الراهن، وحيث تسعى الولايات المتحدة جاهدة لعرقلة تقدم الخصم الصيني في هذا القطاع الحيوي الذي تعتمد عليه كافة الصناعات الالكترونية.
تشير التقارير إلى أن جهود الولايات المتحدة على هذا الصعيد تشمل إلزام شركات تصنيع الرقائق الالكترونية بالحصول على ترخيص قبل تصدير أي منتجات للصين، كما تمنع المواطنين الأمريكيين وحاملي ألـ"جرين كارد" من العمل في شركات الرقائق الصينية، ما يشير إلى مدى حساسية الأمر الذي تعتبره واشنطن مسألة أمن قومي بالنسبة لها، وهو ما وصفته بالصين بأنه "إرهاب تكنولوجي"، وقدمت شكوى هي الأولى من نوعها منذ تولى الرئيس بايدن الحكم في الولايات المتحدة، إلى منظمة التجارة العالمية، معتبرة أن الولايات المتحدة تسيء إستخدام ضوابط التصدير للحفاظ على "ريادتها في قطاعات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والتصنيع".
الخبراء يرون أن القيود الأمريكية تمثل ضربة جديدة لسلاسل التوريد العالمية التي تعاني بالفعل منذ تفشي جائحة "كورونا" واندلاع أزمة أوكرانيا، والمسألة ليست هينّة لأن هناك دول تصطف إلى جانب الولايات المتحدة في فرض قيود على بيع المنتجات التكنولوجية المتقدمة للشركات الصينية، حيث تجري واشنطن مفاوضات بالفعل مع شركائها الدوليين، وما يضاعف التأثير المتوقع لذلك أن الضوابط الأمريكية لا تستهدف الشركات التي تنتج الرقائق الإلكترونية فقط بل تشمل الشركات المصنعة لمعدات تصنيع الرقائق.
الملاحظ أن الحرب التجارية الصينية ـ الأمريكية التي نشبت في عهد الرئيس السابق ترامب قد أصبحت أكثر تخصصية، ولم تعد تركز على الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم التي لا تزال سارية وتشمل نحو ثلي البضائع التي تصدرها الصين للولايات المتحدة، بل إنتقلت لمحاصرة تكنولوجيا تصنيع الرقائق لتصبح أكثر تحديداً في محاصرة الطموح الصيني المتسارع.
الإجراءات الأمريكية الأخيرة ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها إجراءات عدة بدأت منذ فترة، وجميعها تستهدف الحد من نفوذ الصين في مجال صناعة الرقائق الالكترونية وأشباه الموصلات، وصولاً إلى لجم قدرات الصناعات العسكرية الصينية وبالتالي الحد من قدرة الصين على تحقيق تفوق عسكري على الولايات المتحدة.
هناك جدل بين الخبراء حول التأثير المتوقع للإجراءات الأمريكية، حيث يرى البعض أنها ستوقف مسيرة الصين التكنولوجية، في حين يرى البعض أنه توقف مؤقت وأن الصين ستركز على تنمية قدراتها الذاتية في هذا المجال وستعود أكثر تفوقاً على منافسيها، وقد أطلقت بكين بالفعل برنامج ضخم لتعزيز قدراتها التصنيعية والابتكارية في هذا القطاع. بينما يرى فريق ثالث أن التأثيرات تفوق الصراع الثنائي وتطال العالم كله لأن الأسواق تعاني بالفعل نقصاً في الرقائق الالكترونية الدقيقة ما أدى إلى تباطؤ الإنتاج في كثير من القطاعات التصنيعية، وهذا كله يهدد الإقتصاد العالمي بمزيد من الركود، لكن من الواضح أن هذا كله لا يهم صانع القرار الأمريكي الذي قرر التركيز على هذه الجبهة، منذ أن وقع الرئيس بايدن في أغسطس الماضي قانوناً يخصص 280 مليار دولار للتصنيع عالي التقنية والبحث العلمي، بهدف تعزيز التفوق التكنولوجي الأمريكي في الصراع مع الصين، وهناك مشروعات جارية لتصنيع الرقائق في الولايات المتحدة وإعادة هذه الصناعة للبلاد بالشراكة مع شركة تايوانية وكورية جنوبية.
الإحصاءات تقول أن الولايات المتحدة تنتج الآن نحو 10% فقط من المعروض العالمي من أشباه الموصلات، التي تحتاجها كل الصناعات الحيوية من الهواتف للأسلحة المتطورة، التي باتت جميعها محوسبة، بعد أن كانت تنتج نحو 40% في عام 1990، وهنا فقط يظهر السر التايواني، حيث تعد الجزيرة أكبر مركز لصناعة رقائق الحاسوب وأشباه الموصلات في العالم، ويبدو جزءاً كبيراً من الصراع حول تايوان مرتبط بهذه الصناعة الإستراتيجية الحساسة، حيث يتعلق الأمر بالسيادة التقنية التي تبدو محور الصراع بين القوى الدولية الكبرى في الوقت الراهن، حتى أن اليابان قد اعتبرت أن دعم هذه الصناعة في البلاد بمثابة "مهمة وطنية" لا تقل عن تأمين الغذاء والطاقة.
الوقت لا يزال طويلاً نسبياً لإستعادة قدرات الولايات المتحدة في مجال صناعة أشباه الموصلات والرقائق الالكترونية، وحتى ذلك الحين فإن واشنطن ستحرص على حماية تايوان بكل قوتها، التي تبدو جبهة أمن قومي أمريكية تفوق في أهميتها مايحدث في أوكرانيا.