يقدم خبراء غربيون مقترحات للخروج من أزمة العراق وسوريا تفترض حلولا تعتمد على الزمن. يفوتهم ماذا يمكن ان يقدم الزمن لقوة منافسة مثل إيران من فرص.
في الفترة الأخيرة ظللت أحاول تفكيك جوانب الاستراتيجية الأميركية في العراق، فالصحف الأميركية تشن حملة انتقادات ضد إدارة الرئيس اوباما وتتهمه بالفشل في مواجهة تنظيم "داعش"، والبيت الأبيض يدافع بشراسة ويصر على أن استراتيجيته ناجحة، وانها تفعل فعلها في تحقيق الأهداف المتوخاة، ومن هنا أسعى إلى تكثيف القراءة بحثاً عن نقاط كاشفة في هذا الموضوع، بحيث يمكن من خلالها توفير فهم ذاتي أعمق لمجمل المشهد الاستراتيجي المعقد في المنطقة العربية.
أحد التفسيرات التي لفتت انتباهي في هذا المجال، ما ذكره والتر بينكوس في تقريره بصحيفة "واشنطن بوست"، والمنشور تحت عنوان "أصداء فيتنام ما تزال تتردد في العراق"، وقدم فيه تفكير خارج الصندوق نسبياً لما يحرك إدارة أوباما في العراق وغيرها من مناطق الصراع بالمنطقة العربية، منطلقا من تجربة فيتنام المريرة للجيش الأميركي. بينكوس يرى أن الولايات المتحدة أُرغمت في عقدي الستينيات والسبعينيات على مساندة حكومة جنوب فيتنام الضعيفة شعبيا وقتذاك في مواجهة المتمردين المسلحين، وهو موقف مشابه لموقف حكومة حيد العبادي التي تواجه مقاتلي تنظيم "داعش" دون دعم كامل من السنة والأكراد والجماعات العلمانية العراقية. ويأخذ الكاتب مشتركات أخرى للحالتين العراقية والفيتنامية ليؤكد رأيه قائلا أن المتمردين في فيتنا كانوا يتلقون الأسلحة والإمدادات وحتى المقاتلين من شمال البلاد عبر لاوس وكمبوديا المجاورتين، وهو موقف مشابه لتنظيم "داعش" الذي يحصل على امدادات عسكرية وبشرية تتدفق عليه من دول مجاورة. وبجانب ذلك فقد عانى جيش جنوب فيتنام من الفساد ونقص التدريب، وهي المشكلات نفسها التي تؤرق قوات الأمن العراقية في الوقت الراهن. وهنا يشير الكاتب إلى أن انهيار الجيش العراقي في مواجهة عناصر تنظيم "داعش" في مرات عدة في الأشهر الأخيرة قد فتح الباب واسعا أمام مقارنات جديدة مع فيتنام وللاستفادة من دروسها.
الخبير الاستراتيجي الاميركي المعروف انتوني كوردسمان يرى أن أحد الدروس الرئيسية المستفادة من فيتنام وتصلح للتطبيق في العراق هو تعزيز التدخل العسكري الأميركي، من خلال نشر قوات برية أميركية للعمل بجانب الجيش العراق وزيادة فرق التدريب والمساعدة، وهو الرأي ذاته الذي يتبناه كثير من الخبراء والسياسيين الأميركيين منهم السيناتور ليندسي جراهام والسيناتور جون ماكين وغيرهما.
والمفارقة هنا أن الكاتب والتر بينكوس يقول أن فيتنام بدأت على هذا النحو في عهد الرئيس جون كيندي، الذي أرسل في مايو 1961 نحو 400 جندي أميركي من القوات الخاصة إلى جنوب فيتنام لتدريب الجيش على مكافحة المتمردين. وبعد خمسة أشهر، تلقى كينيدي توصيات بزيادة العدد إلى 8 آلاف جندي واستخدام قوات مقاتلة. وبعد 5 سنوات من ذلك، عجزت الولايات المتحدة عن تحقيق النصر وهزيمة الحكومة الشيوعية في شمال فيتنام رغم إرسال ما يربو على 500 ألف جندي يقاتلون هناك، قتل منهم نحو 85 ألفاً. والدرس الذي يستخلصه بينكوس من فيتنام ليس كما يرى السيناتور جراهام وماكين بتعزيز القوات الأميركية، بل السماح للحكومات الأجنبية بالبحث بنفسها عن حلول للتهديدات التي تواجهها، واعتقد أن هذه النقطة تحديداً هي خلاصة استراتيجية أوباما في الشرق الأوسط حاليا، ضمن مايعرف بالقيادة من الخلف أو بتعزيز الاعتماد على الذات لدى الآخرين.
اتصور أن رؤية إدارة أوباما في هذا المجال، قد ولدت من رحم أفكار الجنرال المخضرم مارتن ديمبسي، كبير المستشارين العسكريين للرئيس أوباما، الذي يستعد لمغادرة منصبه الحالي كرئيس لهيئة الأركان الأميركية المشتركة. فديمسبي لا يفضل تكتيك الاستجابة الهجومية المباشرة على التهديدات الناجمة عن تمدد داعش وغيره من تنظيمات الارهاب في العراق، ولا يفضل استخدام القوة الجوية الأميركية بكثافة من دون ضمان نتائج سياسية محددة للعمليات العسكرية، ويؤمن بأن هناك حدود للقوة العسكرية الأميركية في التعاطي مع الصراعات الطائفية والسياسية العميقة في منطقة الشرق الأوسط، وله رؤيته في ذلك بحكم خبرته العميقة بالمنطقة وتعقيداتها.
وجهة نظر ديسمبي تحظى بتقدير الرئيس أوباما الذي يريد أن ينهي فترة رئاسته الثانية من دون ربط اسمه بخوض حرب جديدة او زيادة للقوات الأميركية على الأرض في صراعات عسكرية مزمنة، فأوباما جاء رافها شعار إنهاء الحروب المكلفة التي خاضتها بلده خلال العقد الماضي واستخدام القوة العسكرية باعتدال.
ربما يكون في فكر الجنرال ديسمبي قدر معقول من الوجاهة الاستراتيجية، والمنطقية السياسية فهو يرى أن المشكلة ستظل باقية ما لم يدرك العراقيون أبعادها ويتحركون باتجاه البحث عن حلول دائمة لأزمتهم، ويرى أيضا أن هزيمة تنظيم "داعش" عسكريا بشكل سريع ممكنة، ولكن التعامل مع خطر التنظيم على الأرض بمرور الوقت يتطلب وجود دولة قوية ومؤسسات قادرة على اقتلاع جذوره الفكرية وهياكله التنظيمية، وهذا بدوره يحتاج إلى إدراك عراقي فعلي لحجم الخطر. وأنا بدوري اتفق معه في ذلك تماما؛ فالمعركة بالاساس في العراق هي معركة عراقية، وأي مساعدة من الخارج ستظل مؤقتة، ومن ثم يبقى المخرج الوحيد هو تفهم الساسة العراقيين للواقع ونبذ الطائفية والتحرك نحو بناء دولة حقيقية قائمة على المواطنة والتعايش بين المذاهب والأعراق المختلفة.
التشخيص إذاً ربما يكمن في ما قاله الكاتب الأميركي توماس فريدمان "إن العالم العربي هو منطقة تعددية تفتقر إلى التعددية"، فللبرهنة على ما يقول ويعكس تدهورا هائلاً للأوضاع في المنطقة، يشير فريدمان إلى مقطع فيديو منشور لعالم ديني سني مصري يدعى أحمد النقيب، يعمل محاضراً جامعيا، وينتقد فيه تنظيم "داعش" قبل أن يضيف "لا شك أن داعش أفضل بكثير من المجرمين الشيعة الذين يقتلون السنة بسبب هويتهم". أي أن المقارنة باتت تجري بين سيء وأسوأ، وهذه نقطة جديرة بالانتباه منا كمثقفين ونخب، لأنها توفر قدرا لا بأس به من أوكسجين الحياة لتنظيم "داعش" وغيره من تنظيمات الارهاب.
فريدمان من جانبه يرسم سيناريوهين خطيرين للمخارج المحتملة لإنهاء الأزمات في المنطقة، أحدهما قائم على تدخل قوة خارجية لاحتلال الدول التي تعاني الفوضى بهدف انهاء الصراعات الطائفية والتصدي للمتطرفين، ولكن هذا التدخل قد يحتاج ـ برأيه ـ لنحو خمسة عقود ليقنع هذه الشعوب بالتعايش وتقاسم السلطة كمواطنين متساوين. والسيناريو الثاني هو الانتظار حتى تلتهم نيران الحروب الطائفية نفسها، كما حدث في لبنان حيث انتهت الحرب الأهلية بعد أن سأم اللبنانيين من قتال استمر نحو 14 عاماً، وتبنى الجميع مبدأ لا غالب ولا مغلوب.
نقطة التوافق بين رأيي ديسمبي وفريدمان تكمن في أنه لا علاج من الخارج للصراعات الطائفية الداخلية، بدليل فشل الولايات المتحدة على مدى 10 على هذا الصعيد؛ ومن ثم يبدو الأمر واضحاً فلا علاج ولا حلول مستوردة او جاهزة لقضايا المنطقة وإشكالياتها الداخلية.
تحليلات ديسمبي وفريدمان وغيرهما من الخبراء والمتخصصين الغربيين له أسانيده، ولكنها برأيي لا تعكس فهماً عميقا للمشهد الاقليمي الدائر، فالغرب يستبعد دائما تأثير سلوكيات دولة ذات طموحات توسعية مثل إيران في تحريك صراعات الداخل وتأجيج الطائفية والمذهبية بدول عربية عدة، ومن ثم إبعاد أي حلول أو توافقات وتفاهمات بين فرقاء الداخل. فهذا العامل الحيوي ـ أي الدور الإيراني ـ تحديدا من الضروري تحييده أو إبعاده بحيث تصبح مثل هذه "الوصفات العلاجية" قابلة للتطبيق في منطقتنا العربية.