كنت قد أشرت منذ فترة فى أحد مقالاتى إلى حاجة العالم العربى والإسلامى إلى دراسات وبحوث استباقية قادرة على استكشاف أعماق الظاهرة الارهابية وسبر أغوارها، وبلورة سلم «مؤشرات» أو علامات يمكن من خلالها التنبؤ بإمكان انخراط المراهقين والشباب فى مقتبل العمر فى اعتناق الفكر المتطرف أو التعاطف معه، تماما كما يحدث فى حالات ادمان المخدرات وكيفية التعرف على المدمن من خلال علامات معينة.
ومنذ أيام قرأت بالفعل عن برنامج حكومى بريطانى ضمن خطط مكافحة الارهاب والتشدد، وهو البرنامج المعروف باسم «قناة» الذى تبنى حتى الآن ـ مئات الأفراد البريطانيين لحمايتهم من الوقوع بين براثن الفكر المتشدد. وتقوم فكرة هذا البرنامج على تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية مثل المدارس والجهات المحلية الأخري، وإلزامها قانوناً بالتعاون مع الأجهزة الرسمية من خلال رصد الأشخاص المعرضين للخضوع للفكر المتشدد والانسياق له، أى أنه برنامج للاكتشاف المبكر لخطر تورط الشباب فى التنظيمات الارهابية والخضوع لعناصرها. ويتم عمل جلسات فكرية لهؤلاء الشباب تكون بمنزلة درع واقية توفر لهم نوعا من الحماية الفكرية المستقبلية، أى أننا بصدد برنامج للتحصين الفكرى على غرار برامج التحصين الصحى ضد الكثير من الأوبئة والفيروسات والأمراض.
اللافت فى هذا البرنامج أنه يمثل استجابة رسمية حكومية لتزايد أعداد البريطانيين المنخرطين فى صفوف تنظيم «داعش» فى السنوات الأخيرة»، وتبلورت فكرته بعد نقاشات مجتمعية مستفيضة حول رسم استراتيجيات محددة للتعامل مع هذا الخطر الجديد، وهنا تكمن الفكرة جوهر المسألة، ففى الدول الغربية تعالج الأمور وفق منهج مغاير لما يحدث فى معظم دولنا العربية والاسلامية، حيث يتحمس الجميع ويعلو الاحساس بالخطر فوق ماعداه ثم ما يلبث كل ذلك ان يهدأ بمجرد بروز خطر آخر، وهكذا نجد كل تحد استراتيجى أو تهديد يواجه الأمن الوطنى للدول ينسخ ماقبله ويضعه فى سلة التجاهل والنسيان، وفى أحسن الأحوال يبقى الموضوع قيد المعالجات الكلامية والخطابية والمؤتمرات والندوات وسلسلة طويلة من الأنشطة التى ترفع شعار البحث العلمي، ثم لا تخرج بأى توصيات أو نتائج قابلة للتنفيذ كما يحدث عادة.
الفارق فى الحالتين الغربية والعربية هو الاحساس الحقيقى بالخطر والتفكير المستقبلى الجاد لمواجهته، ولكن يبدو أن مجتمعاتنا قد اعتادت التعايش مع الأخطار، ربما لكثرة هذه الأخطار والتهديدات وتفاقمها، أو جراء عدم وجود استراتيجيات واضحة وجادة من جانب الدول فى التعامل مع هذه الأخطار والتهديدات، بحيث لا يجد من يفكر فى طرح الحلول والبدائل من يستمع إليه بعد أن انحصرت النقاشات فى جوانب شكلية تصب فى مصلحة الأفراد أكثر من مصلحة الدول والشعوب.
البرنامج البريطانى لا يلزم كل من يحال إليه بحضور جلسات فكرية بل يقوم خبراء متخصصون بتقييم الوضع أو الحالة، واتخاذ قرار بشأنها سواء بحضور الجلسات أو الاكتفاء بمراقبة السلوك، أو غير ذلك، وما يهمنى فى هذا المقام أن كلا من هذه المفاهيم يمارس بشكل مغاير تماماً لما يحدث فى كثير من دولنا، فالمسألة ليست أمنية محضة فى بريطانيا بل مجتمعية وقائية تركز على احتواء الشباب واعادة دمجهم وتخليص أفكارهم من أى شوائب مضادة للقيم المجتمعية السائدة، وبالتالى لا مجال لوجود ممارسات سلبية تشوه مثل هذه البرامج المتحضرة مثل إبلاغ البعض عن رفقائهم بغرض النكاية أو الوشاية أو غير ذلك، بل من يقوم بذلك هم أفراد رسميون قابلون للمحاسبة والمراجعة، ويتخذون قراراتهم وفق معايير دقيقة لا تخضع للاهواء الشخصية التى تلعب دوراً كبيراً فى إفشال كثير من برامج الحماية المجتمعية فى حالات مشابهة.
قد يكون من المهم الاشارة أيضاً إلى أن هذا البرنامج لم يترك الأمور على عواهنها بل حدد بدقة القيم البريطانية التى يمكن بناء عليها تحديد هوية الشخص المعرض للخضوع للفكر المتشدد، وهى بحسب تعريف الحكومة البريطانية لها ـ «أى معارضة بالقول أو بالفعل للقيم البريطانية الأساسية، ومن بينها الديمقراطية، وسيادة القانون، والحرية الشخصية، والاحترام المتبادل، والتسامح إزاء الأديان والمعتقدات المختلفة»، ما يعنى أننا بصدد وثيقة أو روزنامة قواعد حضارية لنشر التسامح وتكريس التعايش وقبول الآخر وتعميق ثوابت دولة القانون، وهنا تكمن أحد أساسيات نجاح مثل هذه البرامج أنها تضع إطاراً محددا لعملها، وهذا الإطار لا يخضع لتقديرات عشوائية بل ينطوى على سلسلة متدرجة من التقييمات المنفصلة بما يعلى المصلحة العامة ويضعها نصب الأعين، ويستهدف العلاج لا العقاب وهذه مسألة بالغة الحيوية فالهدف من ذلك كله ليس الاساءة أو التشويه أو العقاب بل العلاج والاحتواء بجهود وقائية استباقية متحضرة.
بطبيعة الحال هناك اختلاف فى منظومات القيم الأساسية ومفرداتها، ففى بريطانيا ومعظم الدول الغربية يعتبر النفور من المثليين جنسياً وكراهيتهم بمنزلة خروج على القيم المجتمعية، بينما قد لا يدرج ذلك ضمن التصنيف ذاته فى دول عربية وإسلامية، ولكن العبرة بالفكرة الأساسية وتطويعها لثقافة المجتمعات والأخذ بأسبابها من أجل مواجهة أى فكر ينخر فى جدار الثوابت المجتمعية ويعمل على تآكل سيادة الدولة ويقوض دعائمها الفكرية والثقافية والأمنية.
والملاحظ أن الكثير من الجهود ـ وربما أغلبهاـ فى دولنا العربية والاسلامية تصب فى خانة ايجاد البديل المضاد للتطرف والتشدد، من دون أدنى محاولة لمعالجة الثغرات التى ينفذ الفكر المتشدد، بل إن البدائل السياسية غالبا ماتنحو هى الأخرى نحو هذا التوجه، بمعنى أن الخوف من الاسلام المتشدد على سبيل المثال يدفع البعض إلى الاستقواء بتيارات فكرية مضادة، كما حدث فى عقود وسنوات سابقة حين تم تشجيع الفصائل والأحزاب الشيوعية فى مواجهة الاسلاميين والعكس، من دون مراعاة لطبيعة هذه المجتمعات التى سرعان ماتلفظ ماهو طارىء وعابر وتعود إلى قيمها التقليدية العابرة للتاريخ.
ثمة جزئية أخرى تتعلق بضرورة التركيز على المراهقين والشباب فى مجتمعاتنا، حيث يغيب الاشباع الثقافى الجاد وتختزل الثقافة فى أعمال درامية وفنية استهلاكية لا تعكس واقع المجتمعات وتميل إلى منطق الربح المادي، ويتمدد الفكر المتشدد فى مساحات الفراغ الروحي، لاسيما لدى المراهقين والشباب الباحثين عن ذواتهم والساعين إلى منافذ ثقافية ورياضية قادرة على احتواء طاقاتهم الهائلة وتوجيهها بما يخدم مستقبل هؤلاء الشباب ويحقق آمالهم. ومن هنا اعتقد أن هناك حاجة إلى جهود مجتمعية وحكومية لتحصين المجتمعات ضد التشدد والاكتشاف المبكر لحالاته بعيداً عن المعالجات الأمنية التقليدية بل وفق منهج فكرى مجتمعي، وبالدرجة ذاتها اعتقد أن خطورة بالغة أيضا لأى صمت إعلامى أو رسمى حيال الانحطاط الفنى والثقافي، الذى يولد بدوره تلقائياً انحطاطاً فى الفكر الديني، ولا أبالغ إذا قلت إنه أحد أسباب تفاقم عشوائية الفتوى والفوضى السائدة فيها، جراء زيادة «الطلب» الإعلامى على كل ماهو غير ومثير من «الفتاوى» العشوائية المتشددة!!.