نشرت صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية مؤخراً تقريراً عن اجتماع سري عقد بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقادة في حركة "طالبان" الأفغانية، حيث تناقش الجانبان حول تقديم روسيا مساعدات إلى الحركة، حيث ذكرت الصحيفة أن هناك مصادر تحدثت عن لقاء غير معلن عقد بين بوتين وزعيم حركة "طالبان" على مأدبة عشاء في قاعدة عسكرية بطاجيكستان خلال شهر سبتمبر الماضي.
الكرملين من جانبه نفى صحة هذه التقارير، ووصفها بأنها "محض ادعاءات"، ولكن المتأمل في تفاصيل المشهد الدولي الراهن ربما لا يستغرب حدوث ذلك، فما يحدث في رقعة الشطرنج الكبيرة في العالم ابتداء من سوريا وانتهاء بأوكرانيا وأفغانستان لا يعدو أن يكون سوى صراعات بين أقطاب النظام العالمي من أجل إعادة ترسيم مناطق النفوذ، وفي ذلك يتنافس الجميع بطبيعة الحال وكل يلعب ويلقي بثقله وأوراقه كافة من أجل انتزاع مزيد من النفوذ الحقيقي أو الافتراضي أو حتى المستقبلي.
ولذا، ربما يبدو من المنطقي أن تسعى روسيا إلى الدخول مجدداً إلى أفغانستان، التي تعتبرها منطقة نفوذ تقليدية وحديقة خلفية استراتيجية لها، حتى لو كانت هذه العودة بأدوات وأهداف مغايرة، وعبر بوابة العدو القديم الذي لعب دور مؤثراً في انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وتفككه منذ غزوه لأفغانستان عام 1979، الذي يعتبره معظم الباحثين بداية النهاية للنفوذ السوفيتي العتيق!
"المصالح تتصالح" كما تقول القاعدة السياسية، فلا مصالح دائمة ولا عداوات مستمرة، ومن ثم تصبح سيناريوهات التعاون بين حركة "طالبان" الأفغانية وروسيا مسألة واردة بل إن التفكير الاستراتيجي يدفع الجانب الروسي باتجاهها بقوة لأسباب واعتبارات عدة، أولها الانتقام من رد "الصفعة" للولايات المتحدة التي لعبت الدور الأهم في تمويل الجهاديين الأفغان خلال مرحلة الغزو السوفيتي لأفغانستان، وها هي الآن في قلب الحدث وميدان العمليات ذاته وتسعى إلى الخروج من المستنقع الأفغاني بأقل الخسائر الاستراتيجية والبشرية الممكنة، وبالتأكيد هناك أطراف وخصوم استراتيجيون لن يتركوا الفرصة تمر من دون الاستفادة منها، وفي مقدمتهم روسيا، والسبب الثاني أن أحد دوافع التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية يكمن في ايجاد معادل موضوعي قابل للمقايضة في الأزمة الأوكرانية، والرد على الضغوط والعقوبات التي مارستها الولايات المتحدة وحلف الأطلسي ضد روسيا في أوكرانيا، ومن ثم فإن البحث عن عقد صفقة مع "طالبان" قد يمثل تفكير من هذا النوع، لاسيما أن اللقاء المزعوم بين بوتين وزعيم "طالبان" قد سبق التدخل العسكري الروسي في سوريا على الأرجح، والذي تم في نهاية سبتمبر الماضي.
ما يهمني في هذه التطورات أن المتغير الروسي بات يقض بقوة مضاجع النسر الأميركي، الذي حاول إحكام السيطرة على النظام العالمي الجديد في ظل بروز منافسين أقوياء جدد في مقدمتهم الصين وروسيا بوتين، وفي ظل اتساع رقعة التنافس بحيث لم تعد حصراً على المجال العسكري، بل امتدت لتشمل الاقتصاد والتجارة وغيرها من مجالات التنافس والصراع القطبي.
روسيا بوتين لم تعد تقبل بوضعها الجيوسياسي، وتسعى بقوة إلى "إنتاج" متغيرات كونية قابلة للاختبار، وتسعى إلى إعادة تعريف البيئة الجيوسياسية العالمية من خلال التدخل المباشر وغير المباشر في كثير من ملفات الصراع المفتوحة عالمياً، فقد تسبب التدخل الروسي في الأزمة السورية ـ على سبيل المثال ـ في إرباك حسابات القطب الأميركي ووضعه في حرج بالغ، لاسيما أن هذا التدخل كان خارج نطاق الاحتمالات الممكنة لمخططي الاستراتيجيات الأميركيين، ولكن بوتين فعلها وجازف بالتدخل في ساحة حرب معقدة وأزمة تشهد تحولات متسارعة. وما تسبب في مزيد من الإرباك لحسابات القوة العظمى الوحيدة في العالم أن التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية قد أنتج متغيرات جديدة منها تعديل موازين القوى العسكرية بين أطراف الصراع، وما يضاعف أهمية هذه النتيجة انها تحققت عبر القوة الجوية، التي يراهن عليها الأطلسي كثيراً في حسم أي صراعات مستقبلية مع خصومه واعدائه الاستراتيجيين.
التدخل الروسي في الأزمة السورية أنتج أيضا تحالفاً من نوع جديد، ظل لفترة طويلة على الورق أو محصوراً في المجال السياسي والاقتصادي ولكنه تطور إلى تحالف عسكري حقيقي يضم روسيا وإيران ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا التحالف عمل ميدانياً ضمن قيادة ميدانية واحدة في مناطق سورية عدة، ما يعكس تحولات في مفهوم التحالف الروسي ـ الايراني على الأقل ونطاقه وحدود توظيفه مستقبلاً.
واعتقد أن المتغيرات المتسارعة في المنطقة ستؤثر في السياسة الخارجية الأميركية بشكل ما وستدفع مخططي هذه السياسة إلى إعادة التفكير في مسألة التركيز على استخدام "القوة الناعمة" كأداة رئيسية لضمان السيطرة والنفوذ الاميركي على العالم، لاسيما أن الخصوم الاستراتيجيين ـ الحاليين والمحتملين ـ يعتمدون "القوة الصلبة" أو الخشنة في رحلة البحث عن مناطق نفوذ جديدة لهم، الأمر الذي قد يعيد النسر الأميركي إلى دائرة قديمة ـ جديدة بالاعتماد على القوة العسكرية الأميركية، أو باعتماد مزيج جديد من القوتين "الناعمة" و"الصلبة"، أو ما يعرف بالقوة الذكية، ولكن مع منح القوة الصلبة اليد العليا في مزيج القوة الأميركية الجديد.