لفت انتباهي مؤخراً خبر مفاده أن طلاب المرحلة الثانوية في بريطانيا سيتلقون دروساً في الأمن الالكتروني، ضمن خطة تستهدف إعداد خبراء يدافعون عن بلادهم ضد الهجمات الالكترونية في المستقبل.
المخطط البريطاني في هذا الشأن وصف بأنه تجريبي ويمتد لنحو خمس سنوات، ويقضي بتلقي نحو 5700 طالب تبدأ أعمارهم من 14 سنة دروساً في الأمن الالكتروني بواقع أربع ساعات أسبوعياً.
ما فهمته من واقع قراءتي لتفاصيل هذه الخطة الطموحة أنها بمنزلة نسخة الكترونية من الجيوش الشعبية التقليدي، وتمثل استجابة لواقع التهديدات المتنامية في البيئة الالكترونية، ويبدو أن فكرة تشكيل جيوش الكترونية تواجه مثل هذه التهديدات لم تعد كافية في ظل تزايد الأخطار الالكترونية وتنوعها سواء من حيث طبيعتها أو مصادرها.
البرنامج البريطاني يشبه إلى حد كبير برامج التربية العسكرية في مدارس كثير من دول العالم، فهو بمنزلة برنامج لتعزيز الوعي الالكتروني، حتى أن عنوان جزء من هذا البرنامج هو "تحديات العالم الحقيقي"، أي أنه يعتبر هذه التحديات تتصل بالعالم الحقيقي وليس الافتراضي للتأكيد على جديتها وأنها ليست مجرد خيالات وافتراضات.
تدريس منهج "الأمن الالكتروني"تجريبياً يأتي استجابة لتوصية إحدى لجان مجلس العموم البريطاني، والتي اعتبرت أن تراجع مستوى المهارات الالكترونية يحد من قدرة بريطانيا على تطوير دفاعات الكترونية يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً، وهي مسألة تؤرق المسؤولين البريطانيين، الذين يصنفون التهديد الالكتروني باعتباره ضمن أربعة تهديدات هي الأخطر على الأمن الوطني البريطاني.
يقول تقرير نشرته شبكة "بي بي سي"أن عدد العاملين في قطاع الأمن الالكتروني ببريطانيا يبلغ نحو 58 ألف شخص، ولكن هناك صعوبات حقيقية في توظيف من يتمتعون بالمهارات المطلوبة لهذا المجال، وفي تصريح له قال وزير الدولة البريطاني للشؤون الرقمية والثقافية مات هانكوك إن "هذا البرنامج ينطوي على فكر سابق لعصره وسيوفر فرصاً واعدة لأفضل العقول وأكثرها براعة بين طلاب الثانوية لاكتساب أحدث مهارات الأمن الالكتروني بموازاة دراستهم الثانوية".
التهديدات الالكترونية تشهد تنامياً متزايداً في السنوات الأخيرة، حيث تشير التقارير إلى أن الهجمات الالكترونية ستكون أوسع نطاقاً وستتميز بقدرتها على اختراق الثغرات الجديدة، التي لا يمكن توقع مدى ضررها على المستخدمين، كما سيلعب كل من إنترنت الأشياء وإنترنت الأشياء الصناعية دوراً أكبر في الهجمات المستهدفة خلال العام الجاري تحديداً، وبطبيعة الحال فإن مثل هذه التهديدات لا تستهدف الأشخاص فقط، بل تستهدف البنى التحتية والشركات والمصارف العملاقة، أي تستهدف ضرب اقتصادات الدول، وهذا الصراع هو بالأساس صراع عقول بين الدول ونوعين الأعداء أولهما مجرمي الانترنت من القراصنة والعصابات، وثانيهما نابع من الدول التي تستخدم الهجمات الالكترونية لتحقيق أهداف ومصالح معينة، مثلما حدث في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، التي لا يزال يدور تحقيقات حول تدخل روسي الكتروني مزعوم فيها لمصلحة الرئيس دونالد ترامب.
الإحصاءات تشير إلى أن نحو 46% من سكان يتصلون بشبكة الانترنت، أي أن الهجمات الالكترونية يمكن ان تكون ساحة صراع واسعة وبالغة التأثير عالمياً. وفي ضوء ذلك، فإن المبادرة البريطانية بتدريس منهج الأمن الإلكتروني أعجبتني ولفتت انتباهي ليس فقط لأنها تستجيب لأحد أخطر مصادر تهديد الأمن الوطني للدول كافة، لاسيما الدول المتقدمة في مجال المعلوماتية بشكل خاص، ولكن لأنها تمثل تفكيراً وطنياً جماعياً يستهدف رفع الوعي الجمعي لدى الشباب بمصادر التهديد المحتملة لبلادهم بشكل علمي ومن خلال قنوات ومبادرات استباقية مدروسة.
في السابق ،كانت التربية العسكرية التقليدية تنمي لدى الأجيال الشابة الوعي الوطني وتغرس فيهم قيم الولاء والانتماء، ولكن مع تطور مصادر الخطر والتهديد بات الالمام بهذه التهديدات أحد متطلبات الأمن الوطني، لاسيما في ظل كثرة مصادر التهديد الالكترونية وتنوعها بما يفوق مصادر التهديد التقليدية بمراحل، كما أن هذه التهيئة المبكرة تشجع الكلاب على الانخراط مستقبلاً في تخصصات دراسية ومهنية لها علاقة وثيقة بالأمن الالكتروني، بما يلبي احتياجات سوق العمل في كل دولة لهذه التخصصات، لاسيما أنها تحتاج إلى خبرات وكوادر وطنية أكثر مما تحتاج إلى استقطاب عاملين ومتخصصين من الخارج، كما يصعب بالتأكيد تنفيذ مثل هذه الوظائف عبر نظام "التعهيد"المعمول به في كثير من المهن الالكترونية.
منهاج "الأمن الالكتروني"مبادرة وفكرة جديرة بالإعجاب كونها تمثل تفكيراً خارج الصندوق في الاستجابة للتحديات والتهديدات، وأيضاً استجابة استباقية للاحتياجات الوطنية من الموارد البشرية في ظل التزايد الهائل لمصادر التهديد الالكتروني.