بعد 24 يوما فقط قضاها في منصب مستشار الأمن القومي الأميركي، استقال مايكل فلين بسبب اتصالات بينه وبين روسيا قبل تولي الرئيس ترامب منصب الرئاسة، ليصبح صاحب أقصر فترة قضاها مستشار للأمن القومي في تاريخ الولايات المتحدة.
وأهمية هذه الاستقالة تكمن في أن فلين هو أحد أبرز المقربين بل والمتحمسين للرئيس الأميركي، وكان مستشارا مؤثرا في توجهاته خلال حملة الانتخابات الرئاسية.
فلين يعتبر من صقور الإدارة الأميركية، وتحديدا في ما يتعلق بموقفه تجاه التعامل مع الإرهاب، حيث يعتقد أن الولايات المتحدة تخسر حربا عالمية ضد “التطرف الإسلامي”، ومسيرته المهنية مثيرة للانتباه، فقد سبق إبعاده عن منصبه في وكالة استخبارات الدفاع عام 2014 لسبب غير معلوم، قال هو إنه يتعلق بحديثه الصريح عن “التطرف الإسلامي”، وقيل إن السبب يرتبط بعدم قبول التغييرات الهيكلية التي أجراها داخل الوكالة.
أما مواقفه السياسية فهي أيضاً لافتة، حيث انتقل من المعسكر الديمقراطي الذي قضى فيه عمره، لينضم إلى حملة الرئيس ترامب، بل ويتحالف معه سياسيا بعد أن رأى فيه نموذجا لما يجب أن يكون الرئيس الأميركي، وهذا سر تحمسه الشديد له، وهو حماس عكسته العبارة الشهيرة التي قالها عقب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية، حيث قال “لقد بدأنا ثورة، هذه أكبر انتخابات في تاريخ أمتنا منذ مجيء جورج واشنطن عندما قرر ألا يكون ملكا”.
ومن تتبع الملف الشخصي لمستشار الأمن القومي الأميركي المستقيل يتضح أنه مثير للجدل أيضا في تصريحاته شأنه شأن الرئيس ترامب، فهو أيضا يتحدث في موضوعات ثم يضطر إلى الاعتذار عما قال، مثلما تحدث أثناء رئاسته لوكالة استخبارات الدفاع عن ماكياج المرأة وكيف يجعلها أكثر جاذبية!
فقد غرد في فبراير الجاري يقول “الخوف من المسلمين أمر منطقي”، وقبلها كان قد ذكر في تصريح لصحيفة “نيويورك بوست” خلال شهر يوليو الماضي أن “العالم الإسلامي يمثل فشلا ذريعا”، وفي أغسطس ألقى خطابا أمام جماعة مناهضة للمسلمين في دالاس وصف فيه الدين الإسلامي بأنه “أيديولوجية سياسية تتستر وراء الدين”.
فلين مشهود له بالخبرة في عالم الاستخبارات من خلال عمله في الجيش الأميركي لمدة نحو ثلاثة عقود متواصلة، ولكن يبدو أن هذه الخبرة لم تمنعه من فتح قنوات حوار مثيرة للشكوك مع مسؤولين روس، حيث تشير التقارير الإعلامية إلى أنه استقال بناء على طلب من الرئيس ترامب بعد انحسار الثقة في شخصه، بعد ظهور دلائل على أنه ناقش مسألة العقوبات الأميركية على روسيا، مع دبلوماسي روسي، وذلك قبل تولي ترامب منصبه في البيت الأبيض.
استقال فلين قبل أن يورط الفريق الرئاسي كله، حيث كان مايك بينس نائب الرئيس يدافع عنه قبل أيام قلائل، وينفي الاتهامات عنه، ولكن فلين أقر بأنه خدع دون قصد نائب الرئيس و”أشخاصا آخرين”، بتزويدهم بمعلومات غير كافية بشأن اتصالاته الهاتفية بالدبلوماسي الروسي، والمشكلة الأساسية أن فلين انتهك «قانون لوغان» الذي يحظر على المواطنين أداء مهام دبلوماسية حين ناقش مسألة دبلوماسية مع أطراف خارجية قبل أن يتولى منصبه رسميا، حيث يحظر هذا القانون الأميركي على أي شخص عادي أداء مهام دبلوماسية.
الحزب الديمقراطي يحاول استغلال الحدث للنيل من ترامب نفسه، حيث قال جون ماكين السيناتور عن الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، ورئيس لجنة القوات المسلحة “إن هذه الاستقالة دليل مقلق على الخلل الذي يسود حاليا إدارة الأمن القومي”، فيما طالب عضو مجلس الشيوخ روي بلونت بإجراء تحقيق في علاقة ترامب نفسه بالمسؤولين الروس، وفي الاتجاه ذاته اعتبرت زعيمة الديمقراطيين في مجلس النواب، نانسي بيلوسي، أن “الشعب الأميركي يستحق أن يطّلع على المدى الكامل للقبضة المالية والشخصية والسياسية لروسيا على الرئيس ترامب، وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى أمننا القومي”.
لاشك أن خروج فلين يمثل خسارة فادحة للرئيس ترامب، لأن مستشاره للأمن القومي كان يشاطره وجهات النظر في ملفات حيوية مثل إيران، حيث اتفقا على ضرورة إعادة التفاوض حول ملفها النووي، ولكني أعتقد أن خروج فلين لا يعني انحسارا في التشدد الأميركي تجاه إيران، لأن هذا الملف تحديدا موضع اتفاق أركان الإدارة ومن سيخلفه في منصبه سيكون على الخط ذاته، ناهيك عن أن الرئيس ترامب نفسه هو من يوجه دفة الإدارة في التعامل الصارم مع الملالي.
ورغم التحليلات التي ترى أن الاستقالة ستؤثر سلبا في إدارة الرئيس ترامب، فإن الأرجح أن هذه الاستقالة تخلص الإدارة من عبء ثقيل يطاردها منذ تولي المسؤولية، ويضعها دائما في موقف الدفاع، ناهيك عن أن علاقة فلين بمسؤولين كبار داخل الإدارة لم تكن على ما يرام، بحسب أغلبية آراء المتخصصين والمراقبين، فلم يكن فلين يحتفظ بعلاقة جيدة مع وزير الدفاع جيمس ماتيس وغيره من قيادات الإدارة، علاوة على أن الاستقالة تحسب للرئيس ترامب وليست ضده، بعد أن طلب من أقرب مستشاريه اتخاذ هذه الخطوة جراء فقدان الثقة فيه، ما يوفر للرأي العام الأميركي انطباعا جيدا عن أن الرئيس لا يجامل ولا يحابي ولا ينتظر بل يأخذ من القرارات ما يتوافق مع مصلحة البلاد بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.
الآن، يبقي تساؤل مهم: هل يغلق ملف الاتصالات مع روسيا عقب استقالة فلين؟ وهل تنتهي المزاعم بشأن تدخل روسيا في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية أم أن الاستقالة قد تكون أول الغيث وتعزز هذه الاتهامات وتضيف إليها قوة دفع جديدة، ربما تنتهي إلى ما هو أكثر من ذلك؟