ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في مقال نشتره مؤخرًا بقلم جدعون راتشمان، أن "النزعة العدائية ضد المسلمين والرغبة الجارفة في تعزيز الأمن، باتت تجد لها انصارًا في عموم العالم الغربي وليس في أوساط اليمين المتطرف فقط"، وتناول هذا المقال المهم نقطتين رئيسين أولهما أنه رغم إعاقة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن حظر دخول رعايا سبع دول إسلامية فإن القرار يمثل بداية جهود متكررة في الولايات المتحدة وأوروبا للحد من هجرة المسلمين إلى الغرب.
والنقطة الثانية تتمثل في البعد الاستراتيجي للقرار، الذي اعتبره الكاتب انعكاس لقناعة متجذرة لدى ترامب وفريقه الرئاسي بضرورة خوض المعركة لإنقاذ الحضارة الغربية من الإسلام والمسلمين، حيث يرى الكاتب "حقيقة أن أقرب مستشاري ترامب، يعتقدون أنهم يخوضون معركة لإنقاذ الحضارة الغربية، تعد مفتاحا لفهم إدارة ترامب، وهذا يساعد على فهم أسباب تعهد الرئيس الأمريكي في خطاب تنصيبه بالدفاع عن العالم المتحضر وليس العالم الحر، المصطلح الذي كان يستخدمه الرئيس رونالد ريغان أو الرئيس جون أف كينيدي".
هذا التحليل في غاية الأهمية ويجب التعامل معه بدقة شديدة لأن معناه كارثي بكل المقاييس، ولو صدق فإنه يعني أننا بصدد استعدادات لموجة جديدة من صراع الحضارات، ولكن من الضروري قبل تبني أي وجهة نظر التعرف إلى مستوى الحرفية في اختيار المصطلحات والمفاهيم، بمعنى ضرورة التأكد من أهداف التعامل مع الآخر من خلال منظور "حضاري" أو "عرقي"، أو "ديني" وليس لأسباب ودوافع سياسية وأيديولوجية، فالخبرة السياسية وضعف إلمام الرئيس ترامب بالعلاقات الدولية وثوابتها ربما يلعب دورًا مهمًا في انتقاء هذا المصطلح دون الآخر، علما بأن التفرقة بين "العالم الحر" و"العالم المتحضر" تبدو في مصلحة ترامب وليست ضده.
العالم الحر هو أحد المصطلحات المتداولة خلال حقبة الحرب الباردة، وكان يشير عادة إلى الدول غير الشيوعية باعتبارها عالمًا حرًا، ومنها الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واستراليًا ودول الكومنولث وحتى إسرائيل وغيرها، ولهذا فإن الأرجح أن الرئيس ترامب قد استبعد هذا المصطلح لأنه عفا عليه الزمن، ولو أعاد طرحه سيتهم حتمًا بالجهل بمتغيرات العلاقات الدولية، أو استدعاء معطيات الحرب الباردة، والأغلب أنه كان سيتهم باستدعاء الماضي والسعي لشن حرب باردة ضد الإسلام والمسلمين طالما أنه استخدم مصطلحًا ارتبط حصريًا بتلك الحقبة التاريخية.
ولذا فإنني أميل إلى استبعاد الانطلاق من التقسيمات الحضارية للعالم (متحضر وغير متحضر) لإطلاق صراع حضاري غربي مع العالم الإسلامي، والأرجح ان الرئيس ترامب استخدم هذا المصطلح تعبيرًا عن رؤيته وفريقه الرئاسي لأجزاء من العالم الإسلامي، فمستشاره للأمن القومي المستقيل مؤخرًا وكان أقرب المقربين إليه خلال الأشهر الأخيرة مايكل فلين، ذكر في تصريح لصحيفة "نيويورك بوست" خلال شهر يوليو الماضي أن "العالم الإسلامي يمثل فشلا ذريعا"، وفي أغسطس ألقى خطابًا امام جماعة مناهضة للمسلمين في دالاس وصف فيه الدين الإسلامي بأنه "أيديولوجية سياسية تتستر وراء الدين"، والحديث هنا واضح عن أيديولوجية وليس دينًا ولا حضارة، ورغم رفضي لهذا المنظور الفكري البائس في توصيف ديننا الإسلامي الحنيف، فإن من الموضوعية القول بأنه لا يعني بالتبعية صراع الحضارات.
ثمة نقطة أخرى مهمة في فهم ما وراء تصريحات ترامب وأركان إدارته، أن هذا التشدد الصادم للبعض ليس مقتصرًا على العالم الإسلامي، فهناك جبهات صراع كلامي مفتوحة مع المكسيك والصين، بل وضد جوهر فكرة العولمة التي صدٌرتها الولايات المتحدة للعالم أجمع، فهناك نقاشات ودعوات لإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة، بل واتفاقية منظمة التجارة العالمية ذاتها، ما يعني أن الأمر لا يقتصر على العالم الإسلامي. ناهيك عن أن موقف إدارة ترامب حيال اللاجئين مسألة لا علاقة لها بالدين الإسلامي بقدر ما هي متصلة بالخوف والقلق من الإرهاب.
صحيح أن هناك نزعة يمينية تجتاح العالم وتتخذ من العداء للإسلام والمسلمين شعارًا لها، ولكن من الصعب القفز على الواقع والقول بأن هناك صراع حضارات يتشكل في العالم حاليًا، بعد أن تآكلت نظرية صراع الحضارات التي طرحها هنتنجتون في الربع الأخير من القرن العشرين.
رغم الأهمية الفائقة لهذه الطروحات والتحليلات، فإنني أتمنى أن نأخذها في العالم العربي والإسلامي بما تستحق من جدية، وأن نعمل على إزالة أسبابها والتخلص من مبرراتها، وفي مقدمتها الإرهاب، الذي يوفر الفرصة لتشويه صورة الدين والمسلمين جميعًا، ومن ثم يستحق منا جميعًا مواجهة أكثر جدية وصرامة، ليس على المستوى العسكري فقط، بل الفكري والثقافي والتربوي والتعليمي، لاسيما أن هناك جوانب قصور عديدة باتت تشوب المعالجات المتكاملة لهذه الظاهرة البشعة، فهناك نوع من التخاذل أو التباطؤ في بعض مناطق العالم الإسلامي حيال التصدي للإرهاب فكريًا، وهناك تردد في مناطق أخرى! فقد انحسر الحديث عن تجديد الخطاب الديني ولم يحدث شيء وانفضت المؤتمرات والندوات والمحاضرات، واكتفى الكثيرون بالدعوات والمطالبات وخرجوا من هذه الحفلات الكلامية بمجرد الدعوات والنداءات!!
قبل أن نخشى توجهات إدارة ترامب أو غيرها تجاه العالم الإسلامي، علينا أولًا أن ننزع فتيل أي توجهات مضادة لنا، وفي مقدمة ذلك يأتي العمل الجاد على استئصال شأفة الإرهاب.