ينظر الكثير من المراقبين والمتخصصين إلى ما يحدث بين روسيا وبريطانيا باعتباره فصلًا جديدًا من فصول الحرب الباردة، أو أنها عودة لأجوائها، ولكنني أعتقد أن هذه الحرب قد ولت وطويت صفحتها تمامًا، فالاتحاد السوفيتي قد انهار في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، ووريثته الشرعية، روسيا لا تحمل أيديولوجية الكيان المنهار، وهذا هو الشق الأهم في توصيف ما يحدث، باعتباره صراع نفوذ لا علاقة له بالأيديولوجيات التي كانت تمثل محور الصراع خلال حقبة الحرب الباردة.
ما يحدث بين روسيا وبريطانيا أقرب لمعركة نفوذ ناجمة عن استشعار بريطانيا إهانة لحقت بكبريائها الوطني وكرامتها عقب تمكن عملاء روس من اغتيال العميل الروسي - المواطن البريطاني حاليًا - على أرض بلاده، بكل ما يمثله ذلك من انتهاك للسيادة وخرق للقوانين الدولية، وهذا ما يفسر غضب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الشديد، واتهامها المباشر للرئيس بوتين بالتورط في عملية الاغتيال، حيث قالت إنها تشعر بالأسف أن يتصرف بوتين - بالاسم - بهذه الطريقة، وهو اتهام مباشر للرئيس الروسي بأنه متورط - شخصيا - في قرار تصفية العميل سيكريبال وابنته.
شعرت بريطانيا في تكرار هذه الحادثة على أراضيها بأنها "جمهورية موز" يمكن أن تصول المافيا وتجول فيها من دون رد قوي، وما فاقم المشاعر البريطانية القومية أنها حادثة مكررة (مثيلة لأخرى عام 2006) وأنها تتزامن مع رغبة بريطانيا في تعزيز نفوذها ودورها على الساحة الدولية استعدادًا لمرحلة مابعد "بريكزيت" أو الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لم يكن أمام السلطات الروسية الكثير من الخيارات في التعامل مع مهلة بريطانيا بتقديم "المصل" الذي يعالج غاز الأعصاب، الذي أصيب به العميل الروسي، فتقديم المصل يعني اعترافًا صريحًا ومباشرًا بالمسئولية عن عملية الاغتيال بكل ما يترتب عليها من استحقاقات قانونية دولية، فضلًا عما يلحق بهذا الاعتراف من نتائج وخيمة ترتبط بعملية اغتيال مشابهة وبنفس الأسلوب جرت في بريطانيا أيضًا عام 2006، والإساءة إلى صورة روسيا التي تستعد لاستضافة بطولة كأس العالم، وينسف تمامًا الصورة النمطية التي تحاول الترويج لها في العالم ارتباطًا بدورها في مكافحة تنظيمات الإرهاب في سوريا.
الحقيقة أن الرد البريطاني جاء تحت توصيف الاعتداء باعتباره "عملًا عدائيًا" ولكن الرد عليه جاء مدروسًا بعناية ودقة بالغة، حيث قررت لندن طرد ثلاثة وعشرين دبلوماسي روسي تتهمهم بأنهم جواسيس يحملون وثائق دبلوماسية، وهو أكبر عدد يتم طرده منذ ثلاثين عاما وأمهلتهم أسبوعا واحدا للمغادرة، كما قررت منع أي فرد من الأسرة المالكة أو وزير أو مسئول بريطاني من حضور افتتاح أو فعاليات كأس العالم المقبلة لكرة القدم، وكذلك قررت تجميد الأصول المملوكة لروسيا في بريطانيا، وهي الخطوة الأكثر خطورة وأهمية في رد الفعل البريطاني، رغم أن أبعادها وحدود شمولها لم تزل غير معروفة، وكذلك قررت فرض شروط أكثر تعقيدا على حاملي الجنسية الروسية الذين يرغبون في دخول بريطانيا، والنظر إليهم باعتبارهم مصدر خطر على البلاد ومواطنيها، مشيرة إلى أنها ستفرض إجراءات رقابية صارمة عليهم، كما وجهت تحذيرات ضمنية للمواطنين البريطانيين الذين يرغبون في السفر إلى روسيا بضرورة مراجعة الخارجية واتخاذ احتياطات وهذا يعني ضرب السياحة البريطانية إلى روسيا.
هناك تصرف بريطاني أكثر أهمية أيضًا يتمثل في التحرك سريعا للنظر في بدائل اقتصادية للغاز الروسي الذي تعتمد عليه بريطانيا في توفير الطاقة لمصانعها، وهذا التوجه تحديدًا قد يعني الكثير بالنسبة للمواقف البريطانية في الساحة الدولية، فهو يعني إمكانية التوجه نحو مصادر بديلة لتصدير الغاز لبريطانيا، وهنا تبدو البدائل في الشرق الأوسط: الغاز الإسرائيلي، الغاز القطري والإيراني عبر البوابة السورية وخط الغاز الذي كان أحد محاور الصراع في سوريا.
بريطانيا صعدت الأزمة عبر منصة الأمم المتحدة وحلف الأطلسي، حيث دعت الأمم المتحدة لمناقشة استخدام روسيا للأسلحة الكيماوية على الأراضي البريطانية، وكذلك تقدمت بطلب لانعقاد مجلس الأمن للنظر في العدوان الروسي على الأرض البريطانية باستخدام الأسلحة الكيماوية، كما طالبت حلف الأطلسي "الناتو" بالتحرك معها تضامنا في مواجهة الاعتداء الروسي وهو ما رحب به الحلف في رد فعل أولي.
كل هذه الإجراءات لم تكن في ما يبدو تشفي غليل الإهانة لدى الأوساط البريطانية، التي بدت منفعلة تمامًا، على عكس طبيعتها، لذا فقد تحدثت رئيس الوزراء تيريزا ماي عن "إجراءات سرية" لن يكشف عنها ردًا على الاعتداء الروسي، وقررت تعليق كل الاتفاقيات الثنائية عالية المستوى بين البلدين.
الولايات المتحدة استغلت من جانبها حالة الغضب ضد روسيا واتخذت منها منصة للتشهير بالتدخلات الروسية في دول أخرى، حيث وفرت لها هذه الحادثة الفرصة المثالية للرد بشكل غير مباشر على التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، فضلًا عن الانتقام من موقف روسية عديدة جرت مؤخرًا في مجلس الأمن، حيث استخدمت روسيا الفيتو لعرقلة مشروع القرار الخاص بإيران مؤخرًا، ولذا فقد بدت نيكي هايلي المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة متحمسة ونقل عنها قولها في كلمة بمجلس الأمن خلال جلسة طارئة لبحث الأمر، إن روسيا هي "المسئولة" عن محاولة قتل ضابط المخابرات الروسي المتقاعد سيرغي سكربيال وابنته.
ومضت هايلي قائلة: "إذا لم نتخذ تدابير ملموسة فورية لمعالجة هذا الأمر الآن، فإن سالزبري (المدينة البريطانية التي شهدت الواقعة) لن يكون آخر مكان نستخدم فيه الأسلحة الكيميائية"، واعتبرت أن مصداقية هذا المجلس لن تنجو "إذا فشلنا في تحميل روسيا المسئولية، فهي عضو بالمجلس ومتهمة باستخدام الأسلحة الكيميائية على أرض دولة آخري ذات سيادة".
أحد جوانب الخطورة في الأمر أنه جاء في توقيت تمر فيه العلاقات الأمريكية الروسية بتوتر ملحوظ، على خلفية التهديدات الأمريكية بشن هجمات ضد مواقع الجيش السوري، حيث تخشى روسيا تعريض حياة مستشاريها العسكريين العاملين في سوريا للخطر. وقد أكد الرئيس بوتين منذ أسبوعين أن روسيا ترد على أي عدون يستهدفها فقط وإنما يستهدف حلفاءها أيضًا، بالتزامن مع استعرضه لأسلحة روسية جديدة قال انها تتفوق على ما عداها في العالم أجمع.
هي معركة كرامة وكبرياء ونفوذ بامتياز، فالإهانة التي شعرت بها بريطانيا تتحسب لها روسيا أيضًا، التي تمتلك حساسية خاصة إزاء هذا الأمر منذ تولي الرئيس بوتين منصبه، وهو ما عبر عنه مندوب روسيا بالأمم المتحدة فاسيلي نيبيزيا، حيث تحدث نافيًا مسئولية بلاده وقال: "ليس لنا أي علاقة بهذا الهجوم، ولا نخاف من أي شيء كما أننا لا نخفي أي شيء"، مضيفًا: "لقد أعطتنا بريطانيا إنذارا مدته 24 ساعة للاعتراف بجريمة، وهذه لغة لا نسمح لأحد بأن يتحدث بها إلينا".
نحن إذن أمام صراع نفوذ جديد بين القوى الدولية، وما يحدث قد يكون بداية فصوله وليس نهايتها، وربما تكون هناك جولات أخرى وامتدادات لهذا الصراع في مناطق وملفات أخرى.