فوارق كبيرة بني وزير الخارجية الأمريكي المُقال ريكس تيلرسون والوزير الجديد بومبيو، والمسألة لا تتعلق فقط بالكيمياء الشخصية التي تجذب ترامب للوزير الجديد، وتطابق المواقف والتوجهات حيال ملفات حيوية مثل الملف النووي الإيراني وكوريا الشمالية.
تيلرسون بشكل عام كان صاحب نهج مختلف ضمن إدارة الرئيس ترامب، فحينما تردد في الحديث عن أهمية القمة المزمعة بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي، كان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السابق) ووزير الخارجية الجديد مايك بومبيو يتحدث إلى برنامج «فوكس نيوز صنداي» ويقول إن الاجتماع المزمع بين ترامب وكيم جونج أون ليس «استعراضاً»، ويضيف «الرئيس ترامب لا يفعل ذلك على سبيل الاستعراض. هو ذاهب لحل مشكلة».
قبيل هذه القمة التاريخية التي يبدو أن بومبيو قد لعب دوراً كبيراً في اتخاذ القرار بشأنها، يحتاج ترامب إلى داعم كبير لسياسته الخارجية، لأنه يراهن على اختراق تاريخي نوعي في مايو المقبل، فهو (ترامب) يتحدث بثقة عن «نجاح هائل» متوقع، وعن رغبة كورية شمالية مؤكدة في «صنع السلام؟»، كما عبر عن ثقته بالتزام كوريا الشمالية بعدم إطلاق أي صاروخ حتى موعد مفاوضاته التاريخية مع كيم جونج اون، ولم يبد أي حذر معهود قبيل مثل هذه اللقاءات المهمة!
استغرقت التحليلات في قراءة أبعاد إقالة تيلرسون، حيث اعتبرها البعض انتصار لمعسكر الدول الأربع المقاطعة لقطر، وهزيمة للموقف القطري، وهذه بالفعل قد تكون أحد استنتاجات الإقالة، في ما ذهب آخرون إلى أنها تعزيز لمعسكر الحرب على حساب معسكر الدبلوماسية الذي كان يتزعمه تيلرسون، وأن الحرب باتت وشيكة ضد إيران بسبب تقاسم المواقف المتشددة حيال طهران بين البيت الأبيض والخارجية الأمريكية.
وأعتقد أن المسألة ليست بهذه البساطة، والأرجح أن ترامب يحتاج في هذا الوقت تحديد إلى وزير خارجية داعم لمواقفه وآرائه بالدرجة الأولى، فالرئيس الأمريكي على وشك حسم ملفات حيوية عدة منها ملف إيران النووي في مايو المقبل، وفي الشهر ذاته هناك قمة مرتقبة مع الزعيم الكوري الشمالي، وهناك إعداد وترتيب للإعلان عن «صفقة القرن» في قضية السلام في الشرق الأوسط، ناهيك عن تفاقم التوتر مع روسيا، والذي بلغ حدوداً ربما لم يكن ترامب يتمناه مطلقاً.
واعتقد أن اقتراب هذه الملفات قد عجل بكتابة ترامب لتغريدة اقالة تيلرسون، باعتبار أن الأمر لم يكن بحاجة سوى إلى «تغريدة الإقالة» غير المسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي، حيث عرف وزير الخارجية السابق خبر اقالته من «تغريدة» الرئيس في موقف أشبه بأن يعرف الوزير خبر إقالته من تصريح عابر للرئيس! فالخلافات بين الرئيس ووزير خارجيته كانت واضحة للجميع، ووصلت إلى مستوى تحدي الذكاء بين الرجلين، بعد أن تشكك ترامب في صحة تصريحات نسبت إلى وزير خارجيته السابق استخف فيها بمستوى ذكاء الرئيس وكفاءته الذهنية والعقلية، واصفاً إياه بأنه «أخرق»!
حالة غير مسبوقة أن يُقال وزير من دون أن يتحدث مع الرئيس عن أسباب إقالته، ولكن ترامب اختصر الأمر بقوله «لم نكن نفكر بصورة متماثلة (يقصد تيلرسون)...مع مايك، أما مايك بومبيو، فلدينا فكر متشابه. أعتقد أن الأمور ستسير بصورة جيدة».
مصير تيلرسون كان معروفاً منذ أشهر، فهو كان يمضي على «جليد هش» منذ توليه منصب وزير الخارجية، على حد وصف أنتوني زيركر مراسل بي بي سي في واشنطن، وأسهم في ذلك أن تيلرسون لم يكن يمتلك أرضية في الوزارة التي يديرها، فقد هبط إليها من عملاق النفط «أكسون موبيل».
أعتقد أن القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل العربي المعروف، في العلاقة بين ترامب وتيلرسون جاءت من موقف تيلرسون الداعم لموقف بريطانيا في اتهام الكرملين في حادث تسمم عميل روسي سابق، حيث قال إن غاز الأعصاب المستخدم في الهجوم «جاء من روسيا» وإنه «بالتأكيد سيؤدي إلى رد». وكان البيت الأبيض قد رفض في اليوم السابق توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى روسيا!
ما يهمنا في المنطقة بشأن هذا التغيير هو انعكاساته على السياسات الأمريكية حيال ملفي إيران وسوريا، فمن الواضح أن الذي كان يقود ملف كوريا الشمالية خلال الفترة الماضية هو جهاز «سي أي أيه» بقيادة بومبيو، ويبدو أن ترامب بات معجب تماماً بنجاح نهجه حيال كوريا الشمالية، وربما يريد تكرار هذا النهج، الذي يوظف التلويح بالقوة لأقصى درجة، مع إيران. ولذا فقد بات انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران أكثر ترجيحاً، كما يمكن توقع نهج أمريكي أكثر عدائية حيال طهران، وتوجه نحول عزل إيران دولياً، وسيطغي الطابع الأمني على السياسة الخارجية الامريكية حيال إيران.
هذا النهج يثير بالتبعية تساؤلات مهمة حول موقف وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لاسيما بعد أن أظهر الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة المركزية الأمريكية تحفظاً صريحاً على الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ودعا في شهادة له مؤخراً أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، إلى بلورة استراتيجية بديلة للتعامل مع الطموحات النووية الإيرانية وقال فوتيل «أعتقد أنه سيكون هناك بعض القلق (في المنطقة) بشأن الطريقة التي نعتزم بها التصدي لهذا الخطر بالتحديد إذا لم يتم التعامل معه من خلال خطة العمل الشاملة المشتركة». في الوقت الراهن أعتقد أنه من مصلحتنا «البقاء ضمن الاتفاق»، وهذا تقريباً هو موقف وزير الدفاع جيمس ماتيس. فهل يستجيب البنتاجون لضغوط البيت الأبيض في ملف إيران أم يتوافق الجانبان على استراتيجية بديلة للتعامل مع إيران قبل حلول مايو المقبل؟!
على إيران ألا تستهين بما يحدث من تحولات، وينبغي أن تقرأ الرسائل وتفاصيل المشهد الاستراتيجي جيداً، وليس أمامها الكثير من الوقت لاحتواء أي خطوات أمريكية حيالها، فقد تكون ضحية لأي توافق أمريكي كوري شمالي، ما لم تأخذ خطوة للوراء وتظهر تجاوباً مع الجهود الأوروبية، الفرنسية تحديداً، لإيجاد مخرج لأزمة وشيكة.