لم يعد هناك مجال للشك في أن الرئيس الروسي قد حقق الكثير على صعيد تعديل هيكلية سياسات روسيا التسليحية وتوجهات سياستها الخارجية، بحيث باتت قادرة بالفعل على إحداث تأثير قوي لدى مخططي الاستراتيجيات الأمريكية، إذ لم يعد بوسع أي باحث او متخصص في العلاقات الدولية الادعاء بأن الولايات المتحدة تهيمن بشكل كامل على مفاصل النظام العالمي كما كان الحال في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
ولنتذكر جميعاً أن الولايات المتحدة حين قررت غزو العراق عام 2003، أحد مناطق النفوذ التقليدية للاتحاد السوفيتي السابق ووريثته روسيا، فلم يكن أمام الكرملين سوى الإذعان للأمر الواقع ومتابعة ما يحدث عبر الفضائيات شأنه شأن أي دولة أخرى. اختلف الحال نسبياً عند تدخل الغرب في أوكرانيا، حيث بادرت روسيا إلى مناكفة النفوذ الغربي بقوة واتخذت من الإجراءات ماوقف حجر عثرة أمام تنفيذ الخطط الأطلسية، ورفضت روسيا بوتين الإذعان لسياسة الأمر الواقع، ثم جاءت المحطة الثالثة في سوريا، حيث بادرت روسيا إلى فرض كلمتها وبسط نفوذها وتحولت إلى من لاعب فاعل في الأزمة السورية إلى اللاعب رقم (1) في الأزمة.
عشر سنوات تقريباً هي العمر الزمني لهذه المحطات الثلاث، التي ستظل عنواناً للتحولات الاستراتيجية التي طرأت على دور روسيا في الساحة الدولية.
لم يكتف الرئيس بوتين بما حققه في سوريا من نجاح للنفوذ والدور الروسي، بل استغل صعود نبرة العداء لروسيا في الأوساط السياسية الأمريكية، وأعلن في الأول من مارس الجاري عن موجة جديدة من الطموح الروسي، كاشفاً للعالم عبر منصة الجمعية الفيدرالية (البرلمان) عن أسلحة استراتيجية جديدة اعتبرها الخبراء تطوراً نوعياً فارقاً على صعيد توازن القوى التسليحي بين روسيا وحلف الأطلسي، ومنها الصاروخ الباليستي العابر للقارات المعروف باسم "سارمات" (ساتان، بحسب مصطلحات حلف الأطلسي) الذي اعتبرته وسائل إعلام صينية وسيلة رادعة تمنع الولايات المتحدة من توجيه ضربة استباقية ضد روسيا، لأن القدرات العملياتية لهذا الصاروخ تتيح له القيام برد خارق متجاوزاً الدرع الصاروخي الأمريكي.
كشف الرئيس بوتين خلال رسالته السنوية أمام الجمعية الفيدرالية، عن اعتماد القوات المسلحة الروسية أكثر من 300 نموذج جديد من المعدات العسكرية منذ عام 2012، منها 80 صاروخ باليستي جديد، و3 غواصات استراتيجية، وقال إن تجهيز القوات الروسية بأسلحة حديثة قد تضاعف بمعدل 7ر3 مرة، مشيراً إلى أن بلاده تصنع منظومات أسلحة استراتيجية غير بالستية، تعجز منظومات الدفاع الجوي عن اعتراضها، كما أعلن عن اختبار إطلاق صاروخ مجنح يعمل على الطاقة النووية بنجاح في نهاية عام 2017، مشيراً إلى أنه لا أحد في العالم يملك مثل هذه الأسلحة.
منظومة الصواريخ الروسية الجديدة، المجهزة بصاروخ "سارمات" عابر القارات (يزن أكثر من 200 طن)، ستحل محل منظومة "فويفودا"، التي تعتبر صواريخها حالياً أقوى صواريخ بالستية عابرة للقارات في العالم، فما الظن بما هو أكثر قدرة تدميرية من سابقه؟!
أحد الأسلحة الروسية الجديدة التي لفتت انتباهي أيضاً هي الغواصات النووية بلا طواقم التي تسمح بضرب قواعد العدو البحرية وسواحله، وهي سلاح بالغ التهديد لما تمتلكه من قدرات عملياتية وما تمثله من خطورة على أمن الولايات المتحدة.
يقول الخبراء الروس أن موجة التسلح الروسية الجديدة ليست ضمن سباق تسلح جديد، ويعتبرون أنه لم يعد هناك سباق أو منافسة في هذا المضمار، وأن ما يحدث هو قفزة تكنولوجية روسية يصعب اللحاق بها، لاسيما أن هذه الأسلحة تنهي دور حاملات الطائرات الأمريكية التي أنفق على تطويرها عشرات المليارات من الدولارات، حيث بات استهدافها بغواصات من دون طواقم مسألة سهلة نسبياً. وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قال من جانبه إن السلاح الجديد الذي تحدث عنه بوتين سيجنب روسيا سباق تسلح جديدا مع الولايات المتحدة، واعتبر أن روسيا أنتجت أسلحة قادرة على تجاوز جميع الأنظمة الصاروخية الحالية والمستقبلية الموجودة لدى الغرب، مضيفا أن هذه الأسلحة تهدف للحفاظ على أمن روسيا وسيادتها لعقود قادمة من الأخطار والتهديدات المحتملة.
تشير مجمل التقارير الغربية المتخصصة إلى أن الترسانة العسكرية الروسية الجديد تمثل مفاجأة غير سارة بكل المقاييس للأوساط العسكرية الأمريكية، في وقت يتناول فيه الخبراء نقاط الضعف التي كشفها الصراع السوري في بعض الأسلحة الأمريكية المتقدمة، ومنها الدبابات الأمريكية، والجيل الخامس من المقاتلات الأمريكية التي يعتقد الخبراء أنها أقل تطوراً من المقاتلات الروسية الحديثة. في برز تفوق الدبابة الروسية "تي 90”"، واختبار مقاتلات الجيل الخامس الروسية من طراز "سوخوي 57 " في الأجواء السورية.
وهذا السجال والنقاش أمر معتاد في أدبيات التنافس بين الدولتين منذ عقود مضت، ولا يجب اعتماده كأحكام قطعية عند بناء تقييم لتوازنات القوى بين الدول. ولكن هذه التطورات، أعادت مجدداً المقارنات بين الجيشين الروسي والأمريكي، من حيث الكفاءة القتالية والقدرات التسليحية والمعنويات وغير ذلك، وبرز عنصر الجاهزية الفائقة للجيش الروسي الذي لا يعاني الإرهاق والتعب جراء التوسع الجغرافي انتشار قواته وخوض حروب عدة على مدى العقدين الماضيين.
السؤال الآن: هل يهيئ الرئيس بوتين البيئة الدولية لصدام عالمي متوقع؟ الإجابة هي بالنفي تماماً، فلا يجب أن نغفل عن سياق حديث الرئيس بوتين، الذي اختار الإعلان في ذروة حملته الانتخابية لفترة رئاسية جديدة، كما لا يجب غض الطرف عن أن هذه الموجة يتم التجهيز لها منذ أكثر عقد من الزمن، وتحديداً بعد قرار إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في عام 2001، ثم فشل إدارتي بوش الابن وأوباما في احتواء غضب الروس حيال منظومات الصواريخ الأمريكية. باختصار بوتين زعيم قومي حالم بأمجاد روسيا، يسعى لإعادة تموضعها على الساحة الدولية، ولا يريد أن يتعامل معها الأطلسي كقوة من الماضي، كونه يدرك تماماً فوارق القوة الشاملة بين روسيا والولايات المتحدة تحديداً، فكل ما يتحقق في روسيا من إنجازات على الصعيد العسكري لا يزال بحاجة إلى ظهير اقتصادي وسياسي وتنموي، كي يمكن الحديث عن قوة عالمية قادرة على قيادة النظام العالمي بديلاً للولايات المتحدة.