ليس من قبيل المبالغة التحليلية القول بأن هناك خارطة شرق أوسطية جديدة يعاد رسمها انطلاقاً من سوريا!
قد ينظر البعض إلى ما يجرى فى هذا البلد العربى باعتباره أزمة أو صراعا سينتهى لا محالة، وهذا صحيح نظرياً، ولكن النهاية ستنطوى حتماً على معطيات جديدة لإعادة الهندسة الجيو استراتيجية إقليمياً، وربما عالمياً أيضاً.
ونظرة تفصيلية واحدة على المشهد السورى تشير إلى إشارات عدة يجب إخضاعها للفحص والتحليل الدقيق، منها العلاقات بين تركيا وحلف الأطلسى، حيث تتجه هذه العلاقات بشكل متسارع إلى "طلاق بائن"، أو على الأقل "انفصال" سيؤدى إلى هذا الطلاق لاحقاً، إذ تأكد ذلك من خلال خطاب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الذى تحدث فيه إلى حلف الناتو داعياً الحلف إلى المساعدة في حماية حدود تركيا من الإرهاب، قائلا "أتحدث إلى دول الناتو ... أين أنتم .. تعالوا إلى سوريا... لماذا تترددون ؟ أليست تركيا دولة عضو بالحلف ؟ لقد لبينا دعوتكم للمشاركة في أفغانستان والصومال ولبنان ، فلم لا تشاركوننا في حربنا ضد الإرهاب الذي يهدد حدودنا ؟"... بطبيعة الحال هذه ليست دعوة حقيقية للحلف ، ولكنها خطاب يريد أردوغان من خلاله أن يوجه رسالة للشعب التركى مفادها أن حلف الأطلسى ليس الشريك الأمثل لتركيا ، وأنه يتعامل مع بلاده وفق مصالحه وليست هناك علاقات تشاركية ندية، وهذا الأمر يفتح الباب أمام تحالفات جديدة بين تركيا وروسيا وبدرجة أقل إيران ويفسر إعادة الانتشار الجيوسياسى التركى فى منطقة الشرق الأوسط.
يعكس الخطاب أيضاً خيبة أمل أردوغان من شركاء الأطلسى وموقفهم المحايد أو الصامت في عملية عفرين السورية ، لاسيما أن الجيش التركي يواجه مأزقاً عسكرياً صعباً ولم يكن متوقعاً في هذه المنطقة ، التي يبدو أن تحقيق النصر فيها مستعصياً بشكل واضح بعد مرور أسابيع عدة من دون تحقيق تقدم كبير في ما كان يعتبره الجيش التركى مهمة قصيرة وبسيطة ، علاوة على أن مأزق الجيش التركي لا يقتصر على عفرين ، بل يطال منبج، التي يواجه فيها الأتراك احتمالية مواجهة القوات الأمريكية المتمركزة هناك، ولا يبدو أنها ستغادر لتفادى الصدام مع الجيش التركى!
والحقيقة أن تركيا فى مأزق استراتيجى بالغ الخطورة، فقد انقلب السحر على الساحر، وتحولت خطط أردوغان في سوريا إلى نقمة على بلاده، وفتحت "صندوق الشرور" وجلبت لحدود تركيا أطماع قوى دولية لا تستطيع أنقرة مجابهتها، وانتقلت بؤر الاهتمام من حماية المدنيين إلى حماية مناطق النفط والغاز السورية، وترك العالم لتركيا تحّمل عبء ملايين اللاجئين السوريين لفترة طويلة بعد أن أصبح تحقق السلام في هذا البلد العربي مرهون بتقاسم المصالح والثروات واستعادة ما أنفقته الدول المشاركة في الصراع هناك! وهذا ما قاله رحيم صفوي مستشار خامنئي للشؤون العسكرية ، الذي طالب باستعادة الثمن الذي دفعته إيران في سوريا، وقال "إن السوريين مستعدون لتسديد التكاليف من النفط والغاز ومعادن الفوسفات". أي أن إيران دولة لها أطماع استعمارية خبيثة وتتاجر بشعارات الدفاع عن المظلومين والشعوب وغير ذلك من مواقف وتصريحات انزاح عنها اللثام حينما تجلت لحظة الحقيقة كالشمس في وضح النهار!
والإشارة الثانية فى سوريا تتمثل في موقف الولايات المتحدة وإصرارها على البقاء لمد طويل في هذا البلد، واعتمادها المتزايد على الأكراد كحليف جديد في الشرق الأوسط، حيث بدا واضحاً أن هناك رهانا يتنامى ببطء شديد على قيام دولة كردية، وأن المسألة مسألة وقت، حيث يلاحظ أن الولايات المتحدة تواجه بإصرار أي خطط لتمدد الجيش السوري المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله اللبناني، إلى منطقة شرق الفرات، كما تواجه بالإصرار ذاته تركيا، التي تسعى للسيطرة على المنطقة الفاصلة بين حدودها وحدود العراق، وهذا الأمر يبدو صعب المنال في ظل الموقف الأمريكي الراهن، حيث تتواجد القوات الأمريكية البالغ قوامها نحو 2500 فرد، بحسب المعلن، في منطقة جغرافية ربما تبلغ نحو ثلث أراضي سوريا تسيطر عليها قوات كردية.
الإشارة الثالثة تكمن في موقف قوات النظام السوري الذي يسعى لاستكمال سيطرته على باقي البلاد، وحصد الثمار الاقتصادية لانتصاراته، التي لم تزل بعيدة عن احتياطات النفط والغاز، التي تقع حاليا تحت سيطرة الأكراد! وتمثل كلمة السر في الصراع بين القوى المتواجدة على الأراضي السورية حالياً. النظام السوري يبدو أيضاً في مأزق صعب في ظل تأكيد الولايات المتحدة أن قواتها جاءت لتبقى من دون سقف زمني، وتمت بالفعل اقامة نحو عشرين قاعدة عسكرية أمريكية فى الشمال السورى، ويصعب توقع خروج أمريكى قريب منها.
صحيح أن روسيا بات لها وجود قوي في سوريا، ولكن هل يجازف بوتين بالصدام مع الولايات المتحدة على الأرض السورية استكمالاً لمسيرة دعم الأسد ؟ هذا الأمر يتوقف على حسابات روسيا ومصالح لأن أي صدام في سوريا بين القوى المتمركزة هنا، ربما ينذر بنشوب حرب عالمية جديدة، لاسيما في ظل وجود إيرانى قوى ورغبة إسرائيلية جامحة فى إبعاد إيران عن حدود إسرائيل وتحجيم نفوذ "حزب الله" اللبناني، علاوة على صراع الغاز المتوسطي، وهذا ملف آخر له أبعاد تغذى أجواء الاحتقان والتوتر.