بعد فترة من التوتر، حبس العالم أجمع أنفاسه خلاله، وترقب حرب نووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، قفزت أخبار التهدئة إلى الصدارة، عبر بوابات الرياضة في كوريا الجنوبية، التي لعبت دور عراب التهدئة واحتواء نذر الصراع النووي منذ دورة الألعاب الشتوية الأخيرة في كوريا الجنوبية، التي كانت مسرحاً لذوبان الجليد بين الكوريتين وتدشين حوار قد ينتهي إلى اتفاق سلام تاريخي.
وفي تسارع لافت للأحداث ولكن في اتجاه مغاير تماماً، وافق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على دعوة زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون لإجراء لقاء بينهما وجها لوجه مايو المقبل، بحسب ما أعلنه مسؤولون كوريون جنوبيون نقلوا إلى البيت الأبيض دعوة الزعيم الكوري الشمالي.
هذا التطور قد يكون الأبرز في تاريخ علاقات البلدين، ويستحق التحليل والاستيعاب، وقد ذكرت في مقال سابق لي أن بيونج يانج تلجأ غالباً إلى سياسة حافة الهاوية من أجل تعظيم مكاسبها في أي جولة تفاوضية محتملة، ولعلها كانت ترى في الأفق أن المفاوضات قادمة لامحالة، لسبب بسيط أن الرئيس ترامب رجل صفقات من الطراز الأول، وليس رجلاً سياسياً تقليدياً، ولن يقبل باستمرار هذا التراشق الكلامي من دون الوصول إلى توافق حول مكان الجلوس مع الطرف الآخر وعقد صفقة تحسب لإدارته، التي يحرص تماماً على أن يجمع لها النقاط ويعزز أرصدته على صعيد السياسة الخارجية بجمع المزيد من "الانفرادات" ـ إن صح التعبير ـ فبعد "سعادته" بتحقيق وعده بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يريد ترامب أن يكون اول رئيس امريكي يحقق اختراق مهم في ملف التوتر المزمن مع كوريا الشمالية، فهو يريد أن يكون أول رئيس أمريكي يلتقي مع زعيم كوري شمالي، في تاريخ علاقات البلدين.
يقول الجانب الأمريكي إن كيم وافق على وقف التجارب النووية والصاروخية وأنه "ملتزم بنزع السلاح النووي". وهو ما يسوقّه البيت الأبيض كمبرر للتراجع عن موقف ترامب الذي قال فيه سابقاً إنه "لا جدوى من الحديث مع كوريا الشمالية" ناصحاً وزير خارجيته ريكس تيلرسون بعدم إهدار الوقت في محاولة فتح النوافذ مع بيونج يانج.
بالتأكيد هناك دروس عدة مستفادة من هذا المشهد حتى الآن، فما تحقق على صعيد تليين موقف كوريا الشمالية يمثل حصاد مباشر لموقف مجلس الأمن الحازم والصارم تجاه خروقات كوريا الشمالية، حيث جاءت روزنامة العقوبات الدولية بمثابة خنق تام للاقتصاد الكوري الشمالي، لاسيما بعد تعاون الصين، أبرز حلفاء بيونج يانج، في تنفيذ هذه العقوبات.
إذا الاجماع الدولي كان مدخلاً مباشراً للتأثير في موقف كوريا الشمالية، ودعم ذلك موقف الإدارة الأمريكية التي نجحت في توزيع الأدوار بين سياسة ضغط قصوى مارسها الرئيس ترامب بنفسه، وتلويح بالعصا والجزر من وراء الكواليس عبر مساومات سرية قادها وزير الخارجية ريكس تيلرسون.
ثمة درس مهم في هذا التطور الأمريكي ـ الكوري الشمالي أنه يتيح لكلا الطرفين الادعاء بتحقيق انتصار، وكلاهما سيروج لفكرة إجبار الآخر على الإذعان والجلوس لمائدة التفاوض!
درس آخر يتعلق بمقدرة الزعيمين على تجاوز هذا السيل الكبير من الشتائم المتبادلة خلال الفترة الأخيرة، والقبول بمنطق السياسة والتفاوض، فقد تجاوز الزعيمين المدى في توجيه السباب للآخر، وخرجا عن النص وأدبيات الحوار السياسي في كثير من الأحيان.
من الوارد أن يكون اللقاء بين ترامب وكيم مجرد مصافحة تاريخية تنتهي من دون نجاح حقيقي، فمن المهم التأكيد على أن كوريا الشمالية لم تعلن بعد أنها ستتخلى عن أسلحتها النووية، ومن الضروري إدراك سيكولوجية هذا النظام الشعبوي الذي اقام شرعيته على مناوئة الغرب وامتلاك سلاح نووي، وبناء جدار عزلة مع كوريا الجنوبية والعالم.
ما يهماً بدرجة أكثر الحاحاً، أن هذه الاستراتيجية المزدوجة هي مايفتقده العالم في التعامل مع إيران، التي تمثل وجهاً آخر لتحدي الإرادة الدولية، ولكنها تواصل ذلك بسبب افتقار العالم إلى الوحدة والتحدث بصوت واحد ووفق استراتيجية مشتركة في التعامل مع انتهاكات إيران بسبب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية التي تربط بعض القوى الكبرى مع إيران، فضلاً عن أن الولايات المتحدة ذاتها تتحدث عن "تمزيق" الاتفاق النووي ولكنها لا تمتلك في حقيقة الأمر استراتيجية واضحة للتعامل مع النفوذ الإيراني المتزايد في منطقة الشرق الأوسط.
بصراحة وموضوعية، علينا ان نتذكر كيف تلعب روسيا دور "حامي إيران" في مجلس الأمن الدولي، كما علينا أن نقرأ جيداً أسباب تردد أوروبا وحذرها عند الحديث عن انتهاكات إيران للقوانين الدولية، فضلاً عن صمت الصين الذي يمكن أن يعبر عن موقف محايد، ولكنه لا يصب في مصلحة ترسيخ الأمن والسلم الدوليين.
لا شك أن دور كوريا الجنوبية يمثل عاملاً حيوياً في استدراج كوريا الشمالية لمربع الحوار، وهو دور يمكن اأن تلعبه دول أخرى إقليمية بالنسبة للحالة الإيرانية، ولكن علينا أن نقر بأن هناك تماثلات واختلافات بين الحالتين، بعضها يتعلق بالتباين بين قدرات كوريا الشمالية وإيران من ناحية، وبعضها الآخر يتعلق بأهداف الولايات المتحدة في الحالتين كل على حدة من ناحية أخرى.
هناك اختلاف حيوي آخر هو الرئيس ترامب نفسه، فهو يريد احتواء كوريا الشمالية ليدخل بها التاريخ الأمريكي، بينما يقف على النقيض في الحالة الإيرانية، حيث يريد أن يمزق الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه أوباما معها، وهذا اختلاف مهم، ولكن ما ينقص ترامب لتبني سياسة حازمة تجاه إيران، أن بقية المؤسسات الأمريكية ربما لا تشاطره موقفه، ولم تزل تراهن على إمكانية احتواء الخطر والتهديد الإيراني من دون قوة.