اعجبتني هذا الأسبوع مقولة سمعتها تتردد على لسان فتاة تتحدث في أحد التقارير الإعلامية التي نشرتها شبكة "بي بي سي" البريطانية حول تفشي ظاهرة وضع كاميرات خفية للنساء في غرف تغيير الملابس وحتى في دورات المياه في إحدى دول شرق آسيا، حيث قالت هذه الفتاة "عقلية الناس لم تتغير بنفس وتيرة تغير التكنولوجيا في العالم"، وهذه حقيقة ربما نلمسها جميعاً ولكننا لم ننتبه إلى حدود تأثيرها البالغ في الكثير مما يجري من حولنا.
تذكرت هذه المقولة وأنا اتابع عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الاخبارية ما يمكن بوصفه بالشغف لدى البعض من مستخدمي هذه الوسائل بانتشار الفوضى والاضطرابات في دول عدة، حيث احتفى البعض بتظاهرات "السترات الصفراء" في فرنسا وتفننوا في رسم توقعات حول مساراتها ومآلاتها، بينما أخذ بعض من يصفون أنفسهم بالنشطاء السياسيين على عاتقهم مهمة تحليل أبعاد ما يحدث هناك وأسبابه وعلاقته بما يعرف إعلامياً بالربيع العربي، وعلاقة التأثير والتأثر القائمة بين فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية من جهة، وبينها وبين الدول العربية من جهة ثانية!
على هذه الخلفية ظهرت عبر "السوشيال ميديا" موجة من التحليل بالتمني للنفخ في أي شرارة تحدث في أي دولة عربية، تحدث البعض في البداية عن تونس والسترات الزرقاء، ثم سرعان ما انتقلت بؤرة اهتمام هؤلاء إلى السودان، حين اشتعلت الاحتجاجات الشعبية هناك، وبرز نوع من الشغف اللافت والتمنيات الغريبة بتفاقم الأحداث واتساعها رغم ما بدا منذ الساعات الأولى من ميل للعنف والفوضى والتدمير والتخريب!
هل بات لدى البعض في دولنا ميل مزمن للفوضى والعنف والتخريب، ولماذا لم يستوعب هؤلاء دروس ما حدث منذ عام 2011، وما أفرزته الأحداث من أزمات اقتصادية ومجتمعية وصراعات وكوارث لا تزال بعض الدول تعانيها حتى الآن، ألا يقرأ هؤلاء عما يدور في ليبيا سوريا وغيرهما؟ ثم لماذا تقفز إلى أذهان بعض العرب فكرة تمنى الفوضى والتخريب؟ ألا يدرك أصحاب هذه "الأحلام" المريضة عواقبها وتبعاتها على الدول والشعوب؟ هل يعبر ذلك عن أزمة عميقة في الانتماءات الوطنية؟!
لماذا يخطر على بال البعض من هؤلاء فكرة الترويج لانتقال أعراض الفوضى والتخريب والعنف إلى مجتمعاتهم لمجرد اختلافهم مع نظام حكم أو رفضهم لبعض السياسات أو معاناتهم من إشكاليات قائمة كالبطالة وندرة فرص العمل أو الغلاء والتضخم وغير ذلك؟ وكيف يرى هؤلاء أن الحل والخلاص من هذه المعضلات التنموية يكمن في العنف والتخريب والاضطرابات ودمار الدول؟
لا أحد ينكر أن هناك أزمات تعانيها دول عربية عدة، ولا أحد يجادل بأن هناك إشكاليات لا تزال قائمة، وأن هناك فساد ومحسوبية وتدهور في التعليم والصحة بدرجات تتفاوت من بلد لآخر، ولا أحد ينكر كذلك أن الواقع لا يزال دون طموحات الشعوب بمراحل، ولكن علينا أن نقر بأن الاعتراف بتدهور الواقع هو أول خطوات الوصول إلى حلول ومعالجات، وهذا ما يجب أن نعترف أنه يحدث في دول عربية عدة، فهناك اعتراف رسمي متكرر على أعلى المستويات السياسية بالواقع التنموي والاقتصادي والتعليمي والصحي المتدهور، وهناك جهود حثيثة تبذل لانتشال الدول والشعوب العربية من هذا الواقع المتراكم، ولكن ما نراه من البعض يبدو مخيب للآمال، فهناك سخرية من الواقعية السياسية التي طالما طالب هؤلاء بها، وهناك عدم رضا عن الاعتراف بتدهور الخدمات والأوضاع التنموية!
هؤلاء البعض من نشطاء "الكي بورد" والفيسبوك لا يجيدون سوى تصدّير الإحباط، الذي هو بضاعتهم الأساسية، يصدّرون الإحباط للشباب وكل أطياف المجتمع بغية الوصول إلى مجتمع محبط يائس من المستقبل ومن إمكانية الخروج من الواقع البائس وتصحيح الأوضاع، هذه الفكرة المريضة التي تسكن عقول هؤلاء ليست عفوية ولا طارئة، فهم يخدمون أهدافاً يعرفونها جيداً، فمنهم من يفتقر للوطنية والانتماء وضعف الهوية لأسباب ذاتية مختلفة، ومنهم من يعمل لمصلحة أطراف خارجية ويقتات ويتكسب من خدمة هذه الأجندات التخريبية، ومنهم من يتاجر بالدين ويمتلك رؤية اقصائية جراء التعرض المزمن لغسل المخ والتدريب على التفكير الأحادي، ومنهم من يعمل بلا هدف ولا يمتلك مشروعاً ولا طموحاً ويسعى لنشر الفوضى والإحباط بين الشباب لا لشيء سوى الفراغ والعبثية جراء ادمان المخدرات!
لماذا ينتظر البعض في شعوبنا ما يصفونه بربيع جديد؟ هل أثمر الربيع الفائت كي ينتظرون ربيعاً جديداً؟! وهل فات على هؤلاء نتائج كل ما حدث منذ عام 2011، هل يعجب هؤلاء ما يحدث لملايين اللاجئين والنازحين من بعض دولنا العربية؟ هل يطمح هؤلاء لرؤية تدفقات مليونية جديدة من اللاجئين والنازحين العرب والمسلمين؟ ألا يعقل هؤلاء دروس الماضي القريب؟!
مشاهد العنف والخراب والفوضى في الشوارع والمدن العربية لا تزال تثير مخيلة البعض ويرون فيها سبيل الخلاص، ولا ندرى كيف يكون الخلاص عبر بوابة الفوضى والدمار، وكيف يمكن لدول تعاني الفقر وضعف الاقتصادات أن تتعافى وتنهض من بين رماد الفوضى والتخريب؟ يجب أن ننتبه جميعاً إلى خطر هؤلاء المرضى الذين يحتفلون بكل شرارة نار تشتعل في أي مكان بمنطقتنا أو في أي دولة من العالم ويرون فيها طوق الإنقاذ من واقع بائس اثق جيداً أنه يليق بتفكيرهم وكسلهم وتبلدهم.
إن هذه الأعراض، على قلتها وضعفها، تكشف عن أزمة هوية تعانيها بعض الفئات والشرائح الاجتماعية في دولنا العربية، وهي أزمة عميقة متراكمة وتتطلب تدخلات جراحية ثقافية عاجلة كي لا تتأثر الأجيال الجديدة بهذه الأعراض القاتلة للأوطان، فلسنا بحاجة إلى "ربيع" جديد بل بحاجة إلى نهضة جديدة عمل جديد، وكفانا جلوساً وانتظاراً لمواسم لا تمطر ولا تثمر سوى الفوضى والخراب.