في قرار وصف بالمفاجئ، وعبر "تغريدة" واحدة، أربك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أطرافاً كثيرة وأثار جدلاً عالمياً واسعاً، حين أعن سحب القوات الأمريكية من سوريا، مبرراً ذلك بأن السبب الوحيد لوجودها هنا وهو هزيمة تنظيم "داعش" قد تحقق، منهياً بذلك وجوداً عسكرياً أمريكياً في سوريا منذ عام 2015.
عدد القوات الأمريكية في سوريا يصل إلى نحو ألفي جندي يتمركزون بشكل أساسي في مناطق شرق وشمال البلاد، وهي مناطق غنية بالنفط وتتمركز فيها قوات سوريا الديمقراطية (يمثل الأكراد العنصر الرئيسي فيها) وتخوض صراعاً ضد تنظيم "داعش".
هناك قواعد عسكرية استراتيجية عدة للقوات الأمريكية في مناطق حدودية سورية مع الأردن وتركيا والعراق، وبالتالي فإن انسحاب هذه القوات بشكل مفاجئ يخلط الأوراق في المعادلة السورية، ويثير الكثير من التكهنات دول دوافع هذا القرار ونتائجه وتداعياته المتوقعة.
ورغم تباين الآراء في تفسير ما وراء القرار، فإن هناك اجماع على أن الخاسر الأكبر هو قوات سوريا الديمقراطية، الحليف السوري الرئيسي للولايات المتحدة، التي خسرت بذلك رهاناتها الاستراتيجية كافة، بل يتوقع أن تتعرض لضربات عسكرية من جانب تركيا والتنظيمات والميلشيات المدعومة من أنقرة، بل ربما يكون القرار بمنزلة "ضوء أخضر" لبدء عملية عسكرية تركية تعقب انهاء الانسحاب الأمريكي مباشرة.
الجدل لم يتمحور فقط حول مصير سوريا، بل تمحور أيضاً حول مصير تنظيم "داعش" فبريطانيا اعتبرت أن التنظيم لم يهزم وما زال موجوداً في سوريا، بينما أكدت فرنسا التزامها العسكري بطرد "داعش" من آخر المواقع التي يسيطر عليها في سوريا، ورأت ألمانيا من جانبها أن الانسحاب الأمريكي قد يضر بالمعركة ضد "داعش"، وهي ردود أفعال تعني أن إدارة الرئيس ترامب لم تتشاور مع حلفائها الأوروبيين بشأن القرار، وهي مسألة مؤكدة في ظل وجود مؤشرات على عدم حدوث تشاور داخل الإدارة الأمريكية نفسها!
كان طبيعياً أن ترحب روسيا بالقرار الأمريكي، وتعتبره "صائباً"، وكذلك فعلت تركيا، فالقرار يفسح المجال للدولتين لتقاسم المصالح في سوريا بالمشاركة مع إيران، ولكن القرار يمنح تركيا تحديداً فرصة ثمينة لتعزيز موقفها الاستراتيجي في مواجهة روسيا وإيران في إطار لعبة تقاسم المصالح في سوريا، كما يصب القرار في مصلحة نظام الرئيس الأسد، ويوفر له فرصة كبيرة لإتمام السيطرة على الأراضي التي تتمركز فيها القوات الكردية.
النظام السوري يتشكك في نوايا الرئيس ترامب وترى وسائل إعلامه في القرار احتمالية عالية لتبادل الأدوار بين الولايات المتحدة وتركيا، وبرهنت على ذلك بتصاعد اللهجة التركية بشأن شن حرب ضد القوات الكردية.
ذهب بعض المراقبين إلى اعتبار قرار الرئيس ترامب عودة للأجندة الأمريكية السابقة بشأن خفض سقف الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط واستئناف استراتيجية "آسيا أولاً" التي دشنها الرئيس السابق باراك أوباما، بينما رأى فيه آخرون خطأ استراتيجية فادح لا يقل عن خطأ أوباما حين غض الطرف عن استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية وسمح له باختراق حدود الخطر الأحمر الأمريكي في هذا الشأن. بينما ذهب آخرون إلى أن الرئيس ترامب يمضي في سياسة تنفيذ وعود قطعها على نفسه خلال حملة الانتخابات الرئاسية، بشأن سحب القوات الأمريكية من مناطق الصراع تنفيذاً لاستراتيجية "أمريكا أولاً"، وعلى نفس المنوال نسج آخرون توقعات بأن هذا القرار يستهدف اثارة جدل أمريكي داخلي كبير يغطي إعلامياً على التحقيقات القضائية التي تقترب من الرئيس شخصياً بشكل تدريجي. وفي هذه التوقعات جميعها قدر من الصحة بنسب مختلفة، فالجمهوريين أنفسهم اعتبروا القرار بمنزلة "هدية مجانية" لروسيا وإيران!
الرئيس ترامب بدا مقتنعاً بقراره ودافع عنه بشراسة معتبراً أنه لم يكن مفاجئاً بالمرة، وأنه يطالب بالانسحاب منذ سنوات، وأنه عبر عن رغبة في سحب القوات الأمريكية منذ أكثر من ستة أشهر، وأنه وافق على تمديد بقائها لاعتبارات قد انتهى أمدها بالفعل، وتساءل الرئيس ترامب "هل تريد الولايات المتحدة الأميركية أن تصبح شرطي الشرق الأوسط وألا تحصل على شيء سوى بذل الأرواح الغالية وإنفاق تريليونات الدولارات لحماية آخرين لا يقدرون، في كل الأحيان تقريبا، ما نقوم به؟ هل نريد أن نظل هناك للأبد؟ حان الوقت أخيرا لأن يحارب آخرون".
هذه التغريدة تعني الكثير من الدلالات أولها أن الرئيس ترامب ربط قراره بعدم الحصول على تمويل كاف للوجود العسكري الأمريكي في سوريا، وثانيها أن ترامب لا يرفض فكرة خوض عمليات عسكرية أو حروب، فقد قال "حان الوقت أخيراً لأن يحارب آخرون" ما يعني أن سحب القوات الأمريكية من سوريا ربما يكون بمنزلة تمهيد لخوض حرب أخرى، وهو ما يمكن تفسيره في إطار الحشد العسكري ضد إيران سواء بهدف خوض حرب ضدها، أو بهدف تصعيد الضغوط العسكرية التي تمارس عليها، لاسيما أن من غير المنطقي التلويح بورقة الحرب ضد إيران في ظل وجود قوات أمريكية تتمركز سواء في سوريا أو في أفغانستان، والبلدان يجري العمل بالفعل على سحب القوات الأمريكية منهمان وربما لا يكون ذلك من باب المصادفة سواء من حيث التوقيت، أو من حيث عنصر التزامن مع تطورات أخرى متعلقة بالنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
المؤكد أيضاً أن للقرار علاقة وثيقة بصفقة أو تفاهم ما لم تتضح أبعاده بعد مع تركيا، فقد جاء القرار الأمريكي عقب مكالمة هاتفية للرئيس ترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، حيث تم الاتفاق خلالها على بيع صفقة صواريخ "باتريوت" بقيمة 5ر3 مليار دولار لتركيا، في مؤشر هام جدا لتحسن في علاقات الحليفين الأطلسيين، ما يعني أن الأجواء مواتية بالفعل لعقد صفقات استراتيجية قد يكون من بينها الانسحاب الأمريكي من سوريا.
في وسط هذه التوقعات والتخمينات، ماذا عن إسرائيل؟ وهل يعني القرار الأمريكية مجازفة من الرئيس ترامب بأمن الحليف الاستراتيجي الأكثر قرباً من إدارته؟ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو حاول التخفيف من وقع القرار، وأشار إلى أنه أطلع مسبقاً على نية إدارة ترامب سحب القوات من سوريا، ولكن الجميع يدرك أن القلق ينتاب إسرائيل في ظل الوجود الإيراني المكثف في سوريا، بدليل أن نتنياهو نفسه أشار إلى أن "إسرائيل ستبقى وحدها في المنطقة، وهو ما سيحدث خللاً في التوازن، مقابل التحالف الروسي السوري الإيراني"، بينما اعتبرت وسائل اعلام إسرائيل قرار ترامب بمنزلة "صفعة لإسرائيل"، وانتصار لتركيا وإيران وروسيا.
الأرجح أن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا له دوافع لم تتضح بعد، وأن الأشهر المقبلة حبلى بالمفاجآت التي ربما يكشف بعضها الدوافع الحقيقية لهذا القرار ويجب الأخذ بالاعتبار هنا شخصية الرئيس ترامب وقراراته التكتيكية القائمة على هدف قصير الأمد واتي يتخلى عنها سريعاً بمجرد تحقق هذا الهدف، وهذا مايفسر تأرجحه بين موقف وآخر، ليس لتردد ولا خطأ حسابات، ولكنه نهج استراتيجي يتبعه ولا يريد التخلي عنهـ، ومن ثم فقرار سحب القوات قابل للتعديل والالغاء وإعادة الدراسة والطرح أي قابل لكل الاحتمالات!