بعد طي صفحة ماعرف بـ "الجهاد الأفغاني"وانسحاب قوات الاتحاد السوفيتي السابق من أفغانستان في عام 1989، برزت آنذاك إشكالية معقدة تتعلق بمصير آلاف العائدين من هذا الصراع بعد أن تمرسوا في خوض الحروب والصراع على جبهات غير تقليدية، وسمي هؤلاء "الأفغان العرب"أو "العرب الأفغان"، ولما كان التجاهل وغياب التعاون الدولي هو البديل في تلك الإشكالية، كان للكثير من هؤلاء بالفعل دور أساسي في ولادة الكثير من تنظيمات الإرهاب في العالم العربي، ومعظم انخرط تحت مظلة تنظيم "القاعدة"في
أفغانستان، في بقي آخرون يمارسون التطرف بمستويات ومعدلات مختلفة.
هذه الظاهرة تطل برأسها الآن في ظل قرب انتهاء الصراع في سوريا، وتفكير الكثير من الدول الغربية في مصير رعاياها الذين ذهبوا إلى سوريا للمشاركة في الصراع تحت راية تنظيم "داعش"و"القاعدة"وتنظيمات أخرى أقل أهمية وفاعلية، حيث أوصت الولايات المتحدة مؤخرًا، الدول الغربية وفي مقدمتها فرنسا بأن تعيد مواطنيها الذين انضموا إلى صفوف القتال في سوريا واعتقلتهم القوات الكردية.
المعروف أن أعداد المقاتلين الغربيين في صفوف تنظيمات الإرهاب في سوريا يتفاوت بحسب تقديرات أجهزة الاستخبارات والأمن الغربية، ولكن من تبقى من هؤلاء لا يقل بأي حال بحسب متوسط التقديرات عن بضع مئات من المقاتلين، علمًا بأن الإشكالية لا تكمن في العدد فقط بل في الموضوع ذاته، لأن التطرف مثل "الجرثومة"التي يمكن أن تنتقل في انتشار فسيفسائي مروع من فرد واحد لعشرات ومئات الأفراد، سيما في ظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة التواصل ونقل الأفكار.
الدول الأوروبية التي تعرضت في الأعوام الأخيرة لاعتداءات إرهابية هي الأكثر اهتمامًا وقلقًا من مصير العائدين من سوريا، وهنا تبرز بلجيكا وبريطانيا وفرنسا، التي يعتقل الأكراد نحو 130 جهاديًا يحملون جنسيتها.
فرنسا أعلت أنها تدرس "كل الخيارات"لتجنب هروب هؤلاء الأشخاص وتفرقهم، ولم تستبعد إعادتهم، والحقيقة أن الرؤية الفرنسية تبدو منطقية لأن التجارب السابقة تشير إلى أن السيناريو الأسوأ في التعامل مع هذا التهديد هو التخلي عن التفكير فيه وترك هؤلاء للظروف تفضي بهم أينما شاءت، حيث يمكن أن يكونوا نواة لتنظيمات إرهابية أشد خطرًا تستهدف الدول التي يحملون جنسيتها.
والحقيقة أيضًا أن هؤلاء يمثلون مشكلة للمجتمع الدولي كله، لأن تنظيمات الإرهاب لا تمثل تهديدًا لدولة بعينها، بل تمثل تهديدًا عالميًا يتطلب أشد درجات التعاون الدولي في مواجهته والتصدي له.
الدول الغربية في معظمها تتعامل مع هؤلاء الإرهابيين عبر برامج "إدماج"أو إجراءات أخرى لتفادي عودتهم مجددًا للإرهاب، ولكن يبقى خطر هؤلاء ماثلًا في ظل صعوبة مراقبة تصرفاتهم وسلوكياتهم على مدار الساعة.
ومن الطبيعي أن تلاقي فكرة عودة الإرهابيين إلى بلادهم معارضة تيارات سياسية مختلفة في دولهم، فمن ذاق مرارة الإرهاب واكتوى بناره لابد وأن يكون حذرًا حيال التعامل مع عناصره والمتسببين فيه، ولكن فرار الإرهابيين الذين تعتقلهم القوات الكردية أو الافراج عنهم لأي سبب يمثل السيناريو الأسوأ لهذه الدول، كما لا يجب تحميل دول أخرى مسؤولية التعامل معهم.
كتبنا منذ فترة ننبه إلى معضلة العائدين من سوريا، ولكن يبدو أن الدول المعنية لم تستعد لهذا السيناريو وراهنت على مايبدو على احتمالية ابادتهم او اعتقالهم في سوريا، ولكن الواقع والتجارب السابقة كانت تؤكد أن بعض هذه العناصر ستبقى وسيكون مصيرها بحاجة إلى جاهزية للتعامل معهم.
إذا كان هذا الأمر يتعلق برعايا الدول الغربية، فإن مصير رعايا بعض الدول العربية الذين انخرطوا في الإرهاب في سوريا هو أيضًا مثار تساؤلات، فهناك آلاف من العرب ذهبوا للقتال ضمن تنظيمات الإرهاب في سوريا، ومن الصعب استنساخ سيناريو الأفغان العرب وغض البصر عن مصير المتبقي من هؤلاء، أو تركهم في سوريا يمثلون تهديدًا من خلال سعيهم المتوقع لمواصلة نشاطهم تحت الأرض، أو الكمون لفترة وإعادة إحياء نشاط تنظيم "داعش"في بعض المناطق السورية!
الأفضل، برأيي، أن يكون هناك توافق دولي حول انشاء محكمة دولية تحت إشراف الأمم المتحدة، تختص بمحاكمة الإرهابيين المتورطين في سوريا من مختلف الجنسيات، بحيث يتم التوافق أيضًا على انشاء معتقلات خاصة تقام في دول أو مناطق معينة بتمويل دولي انطلاقًا من أن مسؤولية مواجهة الإرهاب هي مسؤولية دولية مشتركة، وبالتالي فإن هذه المسؤولية تشمل التعامل مع عناصر الأزمة كافة، بما في ذلك مصير الإرهابيين المعتقلين أو المطاردين حاليًا في الأراضي السورية.