ما حدث على أرض دولة الامارات خلال الأيام الماضية من أحداث تاريخية استثنائية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالعلاقة بين الأديان، ومن ثم ترسيخ قيم التسامح والتعايش عالمياً، سيكون بمنزلة خارطة طريق تمهد دروب البشرية نحو غد أكثر أمناً واستقراراً.
إذا تحدثنا عن أهمية جهود التصدي للتعصب والتطرف والإرهاب عالمياً، فإنها جهود مكثفة ومستمرة منذ سنوات مضت، ولكن غاب عنها جزء رئيسي، بل يفترض أن يكون الركيزة الأساسية لأي جهد على هذا الصعيد، وهو الشق الخاص بالأديان، نعم تحرك علماء الدين من خلال ندوات ومؤتمرات وخطب واستراتيجيات عديدة، ولكنها في مجملها كانت جهود متفرقة مفصولة عن بعضها البعض، لذا فإن الرسالة الأهم التي انطلقت من أبوظبي تتمثل في بناء مشتركات الأخوة الإنسانية بين رمزيّ الدين الإسلامي والكنيسة الكاثوليكية، قداسة البابا فرنسيس، وفضيلة شيخ الأزهر، حيث وقع الطرفان، بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الوثيقة التاريخية الصادرة عن "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية"، الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين في العاصمة الإماراتية على هامش شيخ الأزهر والبابا فرنسيس إلى دولة الامارات.
استوقفني نص الوثيقة ذاته، بما ينطوي عليه من معان ودلالات بالغة ومهمة للغاية على صعيد الحوار بين الأديان والعلاقة بينها، وأيضاً على صعيد تفكيك الصورة النمطية المغلوطة التي يتاجر بها الكثيرون حول علاقة الدين الإسلامي الحنيف بالإرهاب، ورأيت في هذا النص السردي التاريخي الكثير من الأفكار النبيلة التي كنا نحلم بها، كمثقفين وباحثين، حريصون على تخليص عالمنا من تشوهات الإرهاب وتخرصات الإرهابيين، ومن ثم فقد نظرت للوثيقة باعتبارها خارطة طريق ترسم دروب الحاضر والمستقبل لبشرية تحيطها تهديدات وتحديات شتى سعت الوثيقة بدقة لافتة للإلمام والإحاطة بها.
انطلقت الوثيقة من إعلاء كلمة الله الذي خلق البشر جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض وينشروا فيها الخير والمحبة والسلام، لترسي مبادئ أساسية غيبّها الجهلاء وأنصاف المتعلمين في أحاديثهم عن الدين وحقائقه وأصوله وجوهر تعاليمه وأهدافه ورسالته. كما بدأت الوثيقة كذلك بالإشارة المهمة للغاية إلى تحريم الأديان كافة قتل الانسان، لتضع أساساً واضحاً ينسف كل ادعاءات الإرهاب والإرهابيين وتبريراتهم للقتل والذبح وترويع البشر، كما كان لافتاً للغاية أن نص الوثيقة تحدث "باسم الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين الذين أمر الله بالإحسان إليهم ومد يد العون للتخفيف عنهم، فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور" وتلاه بالحديث "باسم الأيتام والأرامل، والمهجرين والنازحين من ديارهم وأوطانهم، وكل ضحايا الحروب والاضطهاد والظلم، والمستضعفين والخائفين والأسرى والمعذبين في الأرض، دون إقصاء أو تمييز. باسم الشعوب التي فقدت الأمن والسلام والتعايش، وحل بها الدمار والخراب والتناحر" منتهياً من ذلك إلى الحديث باسم "الأخوة الإنسانية"، ليضع أساساً قوياً للمساواة بين البشر، ويضع الفئات التي حرصت الأديان جميعها على صون حقوقها ورعاية أفرادها في صدارة اهتمامات المجتمع الدولي المنشغل بالصراعات والنزاعات والفتن عن الفقراء والمهمشين والنازحين وغيرهم!
أشارت الوثيقة أيضاً إلى المسؤولية الدينية والأدبية لرمزيّ الإسلام والمسيحية الموقعين عليها، ودورهما في بناء شراكة مسؤولة مع صناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي، والمفكرين والمبدعين والإعلاميين، في أبلغ رد ليس فقط على الإرهابيين بل أيضاً على من يريدون تفكيك العلاقة بين الدين والمجتمعات، وتحويل الدين إلى متاحف التاريخ كما قال فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في حديث سابق له، ولم تكتف الوثيقة بذلك بل اشارت إلى ان أسباب أزمة العالم تعود إلى "تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية، وكذلك استدعاء النزعة الفردية والفلسفات المادية، التي تؤله الإنسان، وتضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية"، وهنا تبدو جيداً المشتركات الفكرية العميقة بين فضيلة الإمام الطيب والبابا فرانسيس، فكلاهما من مؤيدي الحفاظ على القيم الدينية ورافضي موجات الالحاد بكل ما تحمله من ردة حضارية وفكرية وثقافية للمجتمعات، حيث اعتبرت الوثيقة أن انتشار "شعور عام بالإحباط والعزلة واليأس"، قد "دفع الكثيرين إلى الانخراط إما في دوامة التطرف الإلحادي واللاديني، وإما في دوامة التطرف الديني والتشدد والتعصب الأعمى، كما دفع البعض إلى تبني أشكال من الإدمان والتدمير الذاتي والجماعي."، لتساوي الوثيقة بين هذه النزعات الفكرية المتطرفة والإرهاب، وتضعهما على حد سواء خطراً داهماً يتهدد المجتمعات والشعوب في العالم أجمع.
ولم تكتف الوثيقة بتشخيص الداء، بل اتجهت في نص رائع إلى توصيف العلاج من خلال حلول عدة منها التأكيد على ضرورة أن تظهر "الأسرة كنواة لا غنى عنها للمجتمع وللبشرية، لإنجاب الأبناء وتربيتهم وتعليمهم وتحصينهم بالأخلاق وبالرعاية الأسرية" معتبرة أن "مهاجمة المؤسسة الأسرية والتقليل منها والتشكيك في أهمية دورها هو من أخطر أمراض عصرنا"، وأيضاً ضرورة "إيقاظ الحس الديني والحاجة لبعثه مجددا في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق التربية الصحيحة والتنشئة السليمة والتحلي بالأخلاق والتمسك بالتعاليم الدينية القويمة لمواجهة النزعات الفردية والأنانية والصدامية، والتطرف والتعصب الأعمى بكل أشكاله وصوره" أي ان الوثيقة العالمية لم ترى في التخلي عن الدين حلاً لإشكاليات المجتمعات كما يعتقد البعض، بل قامت بتقويم المسار وتحديد الرؤية من خلال التأكيد على ضرورة إحياء الفهم الديني الصحيح للدين بعيداً عن التعصب والتطرف، تفادياً لازمات مجتمعية تعانيها شعوب عدة جراء غياب البعد الروحي في الحياة العامة.
إنه نص يحتاج إلى كثير من الدراسات المعمقة لفهمه وتحليله والعمل على تطبيق بنوده باعتباره "وصفة" لتخليص العالم من براثن الشر والإرهاب، وترسيخ التسامح والتعايش تحت راية الأخوة الإنسانية التي انطلقت من أبوظبي.