في بيان وُصف بانه الأكثر تصالحاً في تاريخ الحركة الأفغانية، أعلنت حركة "طالبان" مؤخراً أنها لا تطمح إلى احتكار السلطة في الحكومة المستقبلية لأفغانستان، وإنما تسعى لتحقيق التعايش بين المؤسسات الأفغانية. وقال المتحدث باسم الحركة سهيل شاهين في بيان رسمي أنه "بمجرد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، تريد طالبان، أن تعيش مع الأفغان الآخرين، وتبدأ الحياة مثل الإخوة"، كما قال انه "بنهاية الاحتلال (الأمريكي) يتعين على الأفغان نسيان الماضي، ومسامحة بعضهم البعض"، واللافت بعد ذلك قوله "نؤمن بدولة أفغانية شاملة، حيث يمكن لجميع الأفغان أن يروا أنفسهم فيها".
هذا الخطاب يبدو لافت للانتباه ولا يتماهى مع المواقف الرسمية السابقة للحركة، كما يبدو مغاير للخطاب الأيديولوجي للجماعات المحسوبة على الإسلام السياسي بشكل عام، حيث تعمل جميعها، ومن بينها "طالبان"، على احتكار السلطة، بل وترفض مشاركة جماعات محسوبة على التيار الأيديولوجي ذاته مشاركتها في السلطة والحكم، إيماناً بفكرة الخلافة والولاية التي تحول ـ من وجهة نظرهم ـ بينهم وبين مشاركة جميع الأطراف في الحكم ضمن إطار تعددي يضمن تحقيق التعايش بين جميع الأطراف، بما يؤدي في النهاية إلى ديكتاتورية دينية واستبداد تحت شعار الدين!
الاختبار الحقيقي لنوايا "طالبان" وقدرتها على الاستفادة من تجاربها الفاشلة في الحكم، يتمثل في طريقة تعاطيها مع دعوات الحوار مع الحكومة الأفغانية الحالية، فالرئيس الأفغاني أشرف غني، قد دعا "طالبان" غير مرة لبدء محادثات مباشرة مع الحكومة، ولكن الحركة ترفض، بل ترفض حضور ممثل الحكومة في جولات المحادثات التي تعقدها الحركة مع الولايات المتحدة، فكيف لمن يرفض تمثيل الآخر في التفاوض أن يقبل بشراكته في مرحلة سياسية تالية!
الجانب الأمريكي يشير إلى أنه يجري مفاوضات "مثمرة" مع ممثلي حركة "طالبان" وأن مفاوضات السلام ستبدأ قريباً، وأن أي تسوية في البلاد يجب أن تكون بين الحكومة الأفغانية المعترف بها دولياً وحركة "طالبان"، وهذا أمر بديهي، حيث يبدو رفض "طالبان" ـ حتى الآن ـ الجلوس مع ممثلي الحكومة الأفغانية انعكاس لرغبة دفينة في الانفراد بالسلطة.
الحقيقة التي يمكن للمراقب التوصل إليها من منظور تحليلي ان الجانب الأمريكي في عجلة من أمره ويريد التوصل إلى تسوية سريعة تنهي الوجود العسكري في أفغانستان بناء على رغبة الرئيس ترامب، وحركة "طالبان" تتفهم جيداً هذه الظروف وتضغط باتجاه الحصول على أقصى قدر من المكاسب السياسية بعد ان حصلت على مكسب الاعتراف الأمريكي الواضح بدورها ووجودها والجلوس معها على مائدة التفاوض بعد ان خاض الجانبان معارك شرسة منذ عام 2001 حتى الآن.
لا يمكن القطع بأن ثمة تغير جذري في نهج "طالبان" قد حدث، أو القول بأن الحركة باتت أكثر واقعية من الناحية السياسية وتريد بناء صيغة شراكة وتعايش مع بقية مكونات الطيف السياسي الأفغاني، فالدعم الذي تحصل عليه الحركة من أنصارها قائم بالأساس على أيديولوجية واضحة لا تسمح بالكثير من الأفكار التي يسعى المجتمع الدولي إلى بناء أفغانستان الجديدة على أساسها، وسيما مسألة حقوق المرأة وغير ذلك، ومن ثم فإن الكثير مما حدث بات قابل للانهيار والعودة مجدداً إلى المربع الأول بمجرد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان من دون التوصل إلى تسوية واقعية تضمن رقابة المجتمع الدولي على ما يحدث في إطار مرحلة انتقالية يتم الاحتكام فيها لإرادة الشعب الأفغاني.
هناك قيود عدة على أي تسوية تستهدف تحقيق الاستقرار الحقيقي في أفغانستان، أولها سيطرة حركة "طالبان" على أجزاء كثير من البلاد، وضعف قبضة أو بالأحرى انتفاء سلطة الحكومة الأفغانية الشرعية على الحكم في المناطق التي تسيطر عليها الحركة، وهناك أيضاً دور إيران ورغبتها في وجود نموذج حكم ديني مماثل على حدودها الشرقية، فلا يمكن لنظام الملالي القبول بأي صيغة تعددية للحكم في أفغانستان، بل ويعمل على تعزيز دور "طالبان" رغم الخلافات والتناقضات الأيديولوجية العميقة بين الجانبين!
النقطة الأهم في مستقبل أفغانستان تتمثل في ضمان عدم عودة تنظيمات الإرهاب إلى هذا البلد، الذي عانى شعبه طويلاً بسبب وجود هذه التنظيمات، ودفع ثمناً غالياً من امنه واستقراره في مرحلة احتضان "طالبان" لتنظيم "القاعدة" ومابعدها، ومن ثم فإن من الضروري الفصل بين وجود "طالبان" كحركة يصعب ـ عملياً ـ تجاهل دورها في رسم مستقبل أفغانستان، وبين توجهات هذه الحركة التي يجب أن تعي دروس التاريخ وأن تعمل وفق البوصلة الحقيقية للشعب الأفغاني بدلاً من تحويل البلاد إلى ساحة لتدريب الإرهابيين بكل ما يعنيه ذلك من خراب ودمار يفترض أن جميع الأطراف المعنية بالشأن الأفغاني باتت يدرك جيداً عواقبه.