مثلما يحدث تاريخياً مع الفكر المتطرف الذي ينتقل عبر مراحل ومنعطفات محددة من مربع التطرف إلى مربع الإرهاب وسفك الدماء، انتقل اليمين المتطرف في مذبحة "كرايست تشيرتش" بنيوزيلاندا، التي راح ضحيتها 50 من المصلين وإصابة 40 آخرين بمسجدين بالمدينة، إلى مرحلة جديدة من ممارسة العنف وسفك الدماء، فالقاتل الإرهابي تحدث في بيانه عن استهداف قادة سياسيين أبرزهم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، وعمدة لندن صادق خان، وهذه نقطة في غاية الأهمية، ليس لجهة ارتباط اليمين
المتطرف باستهداف زعماء سياسيين لأن هذا الأمر تكرر تاريخياً مرات عدة، ولكن لأن تصنيف مجموعة من السياسيين في العالم باعتبارهم من أنصار الهجرة والمهاجرين وداعمي اللاجئين، ومن ثم استهدافهم بالقتل، قد يكون له أثر بالغ السوء على الأمن والاستقرار العالميين.
هناك أيضاً سمة أخرى لتطور الظاهرة تتمثل في استنساخ أساليب هجمات سابقة للتيار ذاته، ومن ثم "توسيعها" حيث أكد الإرهابي منفذ مذبحة مدينة "كرايست تشيرتش" أنه استوحى جريمته من “أندرس بيهرينغ بريفيك” مرتكب هجمات النرويج عام 2011، وهو أمر يضاهي تطور إجرام تنظيمي "داعش" و "القاعدة" وحتى الهجمات الإرهابية التي نفذتها عناصر من "الذئاب المنفردة" مرات عدة في دول ومدن مختلفة بالطريقة ذاتها مع اختلافات بسيطة وسيلة التنفيذ.
الواضح أيضاً أن تطور فكر اليمين المتطرف لا يخضع للرقابة ذاتها التي تخضع لها عناصر الإرهاب المحسوب على الدين الإسلامي، فالقاتل الإرهابي اعترف بأنه يخطط لارتكاب هذه المذبحة منذ عامين، وأنه اتخذ قرار التنفيذ في مدينة “كرايست تشيرتش” قبل 3 أسابيع فقط، وكان طيلة تلك الفترة يكتب ويسجل أفكاره البغيضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من دون أن ينتبه أحد إلى مضمون هذه الأفكار، وإمكانية ترجمتها إلى عمل إرهابي.
سمة أخرى لهذه الجريمة البشعة أنها ارتكبت من جانب شخص يعترف بأنه لا ينتمي إلى حركة سياسية أو تنظيم حركي، ولكنه اعترف بتأثره تماماً بقادة سياسيين معادين للهجرة والمهاجرين والأقليات في الغرب، وهذا الكلام يعني ان الخطاب السياسي المتطرف لا يقل خطورة عن الخطاب التحريضي الذي يوظف الدين الاسلامي في الهجوم على الحضارة الغربية واتباع الديانات الأخرى.
ومع ذلك فمن السذاجة التسليم بأن القاتل الإرهابي قد قام بتنفيذ جريمته بتصرف منفرد، أي أنه ذئب منفرد ولكن وفق نهج يميني متطرف، والأمر يتطلب تدقيقاً خشية أن تكون هناك تنظيمات يمينية متطرفة انتقلت بالفعل من العمل المعلن إلى العمل السري عبر شبكة أتباع منتشرة في العالم، حيث تقوم السلطات النيوزيلاندية بالفعل بإجراء التحقيقات للكشف عن وجود جهة مسؤولة عن التخطيط لهذا الهجوم الإرهابي.
الإشكالية أن الإرهاب من الناحيتين، اليمين القومي المتطرف من جهة، والإرهاب المحسوب على الدين الإسلامي من جهة ثانية، لا يعترفان بأي ثوابت حتى أنهما يشتركان في معاداة القانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة. ومن أخطر مافي جريمة "كرايست تشيرتش" أنها تستدعي صراعات تاريخية قديمة بين المسلمين والغرب وتحاول استئناف هذه الصراعات مجدداً، ولكن الضحايا هذه المرة لا علاقة لهم بصراعات الماضي ولا أهداف الحاضر الإرهابي الأثيم،الذي يستهدف المهاجرين واللاجئين المسلمين.
هناك ايضاً حزمة من الدوافع العنصرية التي يتكىء عليها الإرهابي في جريمة "كرايست تشيرتش"، فالمسألة قد تجاوزت لديه فكرة التاثر بالخطاب القومي للقادة السياسيين، بل بدا واضحاً تأثره بمجرمي حرب في أوروبا مثل الصربي رادوفان كاراديتش، الملقب بـ”سفاح البوسنة”، المتهم بارتكاب إبادة جماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وانتهاك قوانين الحرب، ضد المسلمين إبان حرب البوسنة (1992-1995).
نفس الدم البارد الذي يصور به الداعشيون مذابحهم وجرائمهم كان المشهد الطاغي في جريمة "كرايست تشيرتش"، فقد قام الإرهابي بتصور جريمته الآثمة من داخل سيارته حتى إطلاق النار على المصلين العزل، وسمى ذلك بـ "الحفلة"، واستمر في إطلاق النار طيلة 15 دقيقة متواصلة عبر بث مباشر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، في مشهد غير مسبوق يجب الانتباه له جيداً، كي لا يصبح هذا المستوى من العنف الإرهابي مثار اعجاب مجرمين آخرين يريدون تنفيذ اعتداءات تخلد أسمائهم، حيث لا يجب أبداً أن ننكر أن هناك دوافع سيكولوجية تحرك بعض هذه العناصر الإرهابية، مثل الرغبة في الشهرة ولعب دور "البطولة" والتخلص من عقد نقص نفسية تلازمهم وغير ذلك. فهذا المشهد بدوافعه يضاهي ما يفعله ارهابيو "داعش" الذين يذبحون بدم بارد رغبة في الشهرة وتحقيق انتصارات وهمية!
الحقيقة أن هناك صمت عالمي حيال خطر اليمين المتطرف وصعود ظاهرة الاسلاموفوبيا، ولو استمر الوضع على ماهو عليه ستزداد خطورة الأمر ليس لأن بعض العنصريين سيعملون على تكرار مذبحة "كرايست تشيرتش"، ولكن لأن مثل هذه الجرائم قد يكون لها ردود أفعال على الجانب المقابل من عناصر متطرفة تنتمي للإسلام، سواء من داعش أو القاعدة أو غيرهما، وهنا يبدو الخطر جلياً ويتطلب تدخلات عقلانية عاجلة في العالم أجمع لنبذ خطاب الكراهية والتحريض وتسمية الأمور بمسمياتها، حيث يجب إعلاء فكرة الأخوة الإنسانية ونشر قيم التسامح والتعايش بشكل أكثر كثافة وحضوراً على المستويات التشريعية والقانونية، وذلك من أجل عزل ومحاصرة التطرف والارهاب على الصعيدين الإسلامي والغربي، لأن الصمت يعني المجازفة بنشوب صراع جديد بين الأديان والحضارات.
نقطة التلاقي بين دعاة السلام ومكافحة الإرهاب والتطرف في العالم يجب أن تنطلق من التسليم بمبدأ واحد هو أن الإرهاب لا دين ولا وطن له، وأن الإرهابيين يعتنقون أيديولوجيات عنف لا علاقة لها بما أنزله الله في الكتب السماوية كافة.