وفي تحليل هذه الجريمة الإرهابية الدنيئة نشير إلى نقاط عدة أولها وقوعها في دولة مسالمة لم يصدر عنها مواقف يمكن أن تربطها بالإرهاب الذي يزعم الدفاع عن الدين، ولا بالإرهاب اليميني المتطرف، المعادي للإسلام والمسلمين في إطار ما يعرف بالإسلاموفوبيا.
نيوزيلاندا، دولة مسالمة يعيش فيها نحو 46 ألف مسلم بحسب إحصاءات عام 2013، أي نحو 1% فقط من السكان الذين يبلغ تعدادهم نحو خمسة ملايين نسمة، والمدينة التي وقعت فيها المذبحة تعد أحد أهم نقاط تمركز المسلمين في البلاد، والذين تنحدر أصولهم في الأغلب من دول آسيوية في مقدمتها الهند، بالإضافة إلى مواطنين نيوزيلانديين اعتنقوا الدين الإسلامي وآخرين من دول الشرق الأوسط.
نيوزيلاندا أيضا هي نموذج للدول التعددية، المعروفة بقبول الآخر، حيث يعيش على أرضها أكثر من مائتي عرق، ويتحدث سكانها بنحو 160 لغة، أي أن هناك تنوع قيمي وثقافي واسع، وقد جاءت الرسالة الضمنية التي حملتها زيارة رئيسة وزراء نيوزيلاندا جاسيندا أرديرن إلى مركز “كانتربري” للاجئين بمدينة كرايست تشيرش بنيوزيلاندا، عقب المذبحة الإرهابية بقليل وهي ترتدي الحجاب الإسلامي لتبعث برسالة قوية إلى مواطنيها والعالم اجمع بتمسك نيوزيلاندا بقيم التعددية واحترام وقبول الآخر، حيث بدا على ملامح رئيسة الوزراء خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب الجريمة عمق الحزن والتأثر البالغ حتى انها وصفت هذا اليوم بالأسوأ في تاريخ بلادها، كما عبرت خلال الزيارة عن "التعاطف والحب لكل المجتمعات المسلمة".
لقد شعرت نيوزيلاندا بالصدمة جراء هذه الفاجعة، وكذلك شعر نحو أكثر من مليار وثمانمائة مليون مسلم في جميع أرجاء العالم، حيث كانت المذبحة نموذجًا يبرهن على تداعيات الخطاب التحريضي بالغ الخطورة لليمين المتطرف المعادي للإسلام في جميع أنحاء العالم، حيث تشهد الكثير من دول العالم تيار معاديا للمهاجرين، يتغذى على وقع مواقف وتصريحات لقادة سياسيين ومسؤولين حزبيين يستغلون هذه الورقة سيئة السمعة والأثر في استقطاب الناخبين واللعب على مشاعر القومية واثارة الخوف من الأجانب وتعميق العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا).
القاتل الإرهابي نفذ جريمته الدنيئة باحتراف وتخطيط حتى أنه بثها على الهواء مباشرة ضمن برنامج "فيسبوك"، وبالتالي كان يدرك جيدًا ماذا يفعل، حيث نشر بيانا مطولا من 74 صفحة نشره على الإنترنت، قال فيه "أنا رجل أبيض لأبوين بريطانيين من الطبقة العاملة، وأنتمي لأسرة منخفضة الدخل، لكنني قررت أن اتخذ موقفا لضمان مستقبل شعبي”، وقد نشر هذا البيان قبل ارتكاب جريمته بيومين، وهذا يبرهن على الأهمية القصوى لمراقبة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، والتعامل مع ما ينشر فيها بجدية وصرامة بالغة.
صحيح أن الأجهزة الأمنية يصعب عليها مراقبة جميع المحتوى الذي ينشره مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما أن هناك ضوابط شديدة على هذه الرقابة في كثير من الدول، ولكن الحقيقة أن هذه المذبحة قد كشفت أن رقابة المحتوى تفوق في أهميتها للأمن المجتمعي ما يتشدق به البعض عن حرية الرأي والتعبير وغير ذلك.
ومن أجل أن نفهم المستوى الخطر الي بلغه اليمين المتطرف، نشير إلى كلمات القاتل الإرهابي فيما وصفه بالبلديل العظيم في بيانه، حيث تحدث عن "التزايد الكبير لعدد المهاجرين” الذين اعتبرهم “محتلين وغزاة"، وأنه اختار نيوزيلندا مسرحًا لجريمته الإرهابية، وأنه أراد من ذلك "توجيه رسالة للغزاة أنهم ليسوا بمأمن حتى في أبعد بقاع الأرض”، كما زعم أنه "ليس هناك من بريء بين المستهدفين، لأن كل من يغزو أرض الغير يتحمل تبعات فعلته"!
فكر إرهابي دنيء لا يقل خساسة وانحطاطًا عن الفكر الداعشي والقاعدي، فكر قائم على الكراهية والعنصرية ورفض الآخر، بل إن ردود أفعاله تشابه تلك التي يبديها ارهابيو داعش عقب ذبح ضحاياهم، حيث قال هو الآخر أنه لا يشعر بالندم، مشيرًا إلى أنه "كان يتمنى قتل عدد أكبر من الغزاة"، وأضاف أن “ارتكاب المذبحة جاء للانتقام لمئات آلاف القتلى الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ”.