فسر الكثيرون دوافع المذبحة الإرهابية التي ارتكبها يميني استرالي متطرف ضد المصلين في مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش النيوزيلندية الهادئة يوم الجمعة الماضي في ضوء تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهذا الأمر حقيقي حتى أن الإرهابي نفسه قد سجل دوافع في مذكرة عريضة مكونة من 76 صفحة نشرها عبر "الانترنت"، ولكن الإشكالية التي تثيرها هذه المذبحة الإرهابية أعمق من مجرد البحث عن الدوافع والاكتفاء بإحالة الأمر إلى ظاهرة ما وتفسيره من خلالها.
الإشكالية الحقيقة هي أن الجهود التي يبذلها طرفي الأزمة، الدول التي تعاني الإرهاب المحسوب زوراً وبهتاناً على الدين الإسلامي من ناحية، والدول التي تشهد تنامياً في النزعة اليمينية العنصرية المتطرفة، لايبذلان ما يكفي من جهود لاستئصال الفكر الأيديولوجي العنيف من جذروه، ويكتفيان بالتصدي له حين يبلغ ذروة العنف أو يميل إلى ارتكاب الجريمة وسفك الدماء.
في العالم العربي والإسلامي، ذهب البعض في مناقشة الجريمة إلى اتهام بعض من تحدثوا صراحة عن دور بعض المساجد في دول غربية في التحريض على العنف والإرهاب وكراهية الاخر، واعتبروا أن هذا الحديث هو الدافع الأساسي الذي شجع الإرهابي اليميني المتطرف على ارتكاب مذبحة " كرايست تشيرتش" مع أن المجرم نفسه قد أقر بانه تبنى أفكاره العنصرية منذ عام 2008، وأنه خطط لارتكاب الجريمة منذ فترة طويلة، أي قبل سنوات من ظهور "داعش" او حتى تصاعد موجات اللجوء الإنساني من مناطق الأزمات العربية في سوريا وغيرها. والحقيقة أن مثل هذه النقاشات تبدو وكأنها نوع من الصيد في المياه العكرة واستغلال دماء الأبرياء في تصفية حسابات السياسية مع بعض الدول أو مع بعض القادة العرب والمسلمين من جانب تنظيمات وجماعات لها دور عميق في الترويج للفكر المتطرف والتحريض ضد الآخر.
وفي مقابل هذه النقاشات السخيفة، يبدو الغرب أيضاً غير مبال بمآلات تطور ظاهرة الإسلاموفوبيا، بل هناك من يوظف آرائه اليمينية المتطرفة من اجل كسب شعبية انتخابية بغض النظر عن التأثير بعيد المدى لمثل هذه الآراء على الامن والاستقرار الاجتماعي، واللحمة الوطنية في تلك الدول.
وبين هذا وذاك، وبصراحة أكثر، هناك في العالم العربي والإسلامي أيضاً من يمول تنظيمات الإرهاب ويستضيف رموزه وعناصره ويفتح لهم منصات إعلامية تحرض ليل نهار ضد الدول والشعوب، وضد الأمن والاستقرار، والكل يعلم أن التمويل الموجه للارهاب يتم توظيفه لاستخدام تنظيمات الإرهاب في تحقيق أغراض سياسية لمصلحة من يدفع لهذه التنظيمات ومن يجلب لها السلاح، ومن يفتح لها الحدود الجغرافية للتنقل من بلد لآخر!
الحقيقة أن ثقافة التحريض والتطرف منتشرة بشكل واسع في العالم، ولا تجد من يتصدى لها بشكل جاد، ويزيل الالتباسات القائمة، أو المزعومة، حول التداخل المفاهيمي بين الإرهاب ومفاهيم أخرى مثل المقاومة وألوان الطيف السياسي مثل اليمين واليسار وغير ذلك، باعتبار ان هناك من لا يزال يخلط بين التطرف وحرية الرأي، وبين التطرف والتحريض من جهة والوطنية من جهة ثانية!
الحقيقة أيضاً أن الصمت على الجرائم العنصرية يعد بمنزلة هدية مجانية أو بالأصح "قُبلة اوكسجين" منعشة لتنظيمات مثل "داعش" و"القاعدة" كادت أن تهزم فكرياً بعد ان هزمت عسكرياً، ولكن مثل هذه الجرائم والمذابح العنصرية كالتي تعرض لها مسجدي كرايست تشيرش في نيوزيلندا، كفيلة بإحياء هذه التنظيمات ومناصريها والمتعاطفين، ولا اعتقد أن هناك من احتفل بهذه المذابح أكثر من أنصار البغدادي وابن لادن والظواهري وغيرهم من قادة الإرهاب المحسوب زوراً على الإسلام!
على العالم الإسلامي أن يراجع ذاته ومساراته منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وسيكتشف أن كل ما فعله البعض في درء مخطط ربط الإسلام بالإرهاب هو مجرد مئات، بل آلاف الندوات والمؤتمرات والخطب والتصريحات الرنانة من دون جهد حقيقي لتفادي مايواجهه المسلمين اليوم من خطر وتهديد. وعلى الجانب الآخر على الغرب ان يراجع ذاته، وسيكتشف أن السماح بصعود الخطاب اليميني المتطرف المعادي للهجرة واللاجئين الانسانيين وغير ذلك قد تجاوز فكرة التنافس السياسي، واستقر منذ سنوات في مربع التحريض واثارة الفتن، وبات داء عضال ينخر في جسد فكرة الاندماج والتعايش بين مكونات القوميات الغربية!
ورغم ان الغرب هو من صدّر للعالم بمكوناته وعرقياته كافة فكرة العولمة والتمازج والقرية الكونية الصغيرة وغير ذلك من مصطلحات ومفاهيم، أصحبت جزء من موارد الثروات المادية الهائلة التي تتراكم في الغرب، فإن هذا الغرب ذاته هو من يرفض التبعات الديموجرافية لهذه الأفكار، التي أسهمت في تنامي ظاهرة الهجرة واللجوء والتنقل، في عالم بات مفتوحاً حسب ما قيل لنا، والمفارقة أن الاقتصادات الغربية هي أكثر المستفيدين من هذا التمازج البشري بسبب هجرة العقول والكفاءات من دول الجنوب إلى دول الشمال، وبعد ذلك لا يزال هنا وهناك من يرفض فكرة التلاقي الإنساني!
الحقيقة أن الحل والبديل الحتمي للخروج من دائرة الإرهاب والتطرف الجهنمية التي تهدد العالم أجمع هو في عقلنة السياسات وترشيد الاستراتيجيات بحيث يدرك العالم ان الحل ليس في العداء للأديان ولا الحضارات بل في التعايش والتلاقي على قاعدة الخوة الإنسانية الجامعة لكل البشر، على أن يستقر ذلك في تشريعات وقوانين رادعة تكافح العنصرية والتحريض والكراهية وترسخ التسامح والاعتدال وقبول الآخر، ومن دون ذلك لا فلا مجال للحديث عن امن وسلام عالمي في ما تبقى من القرن الحادي والعشرين.