ما تحقق في سوريا بدحر "داعش"هو انجاز عسكري بكل المقاييس، ولا يمكن التشكيك فيه أو التقليل منه، بالنظر إلى أن هذا التنظيم كان يسيطر على منطقة تبلغ مساحتها نحو تسعين ألف كيلو متر مربع، يقطنها ما يقرب من 8 ملايين شخص، وتحتوي على موارد كبيرة من الثروة النفطية وعوائد المعابر وغير ذلك.
المعروف، وفق أدبيات وتجارب الإرهاب الحديثة، أن مقتل القيادة الروحية للتنظيم ربما يكون لها اثر لا يقل عن اندحاره عسكريًا، ولكن بقاء القيادة على قيد الحياة لا تعني بالمقابل احتفاظ التنظيم بقوته، حيث فقد الكثير من بريق وتوهج فكرته في عيون مؤيديه واتباعه بعد الهزائم المتوالية، التي عادة ما يحيلها أنصار هذه التنظيمات الأيديولوجية إلى سوء القيادة بحكم المركزية الشديدة في اتخاذ القرار داخل هذه التنظيمات.
الأرجح أن مثل هذه الحالات تشهد انفراد عقد التنظيمات، بسبب اختلاف الرؤى وخطط لملمة الشتات، والتنافس حول الزعامة والقيادة بسبب الضعف المتوقع في قبضة رأس هرم التنظيم، وبالتالي من الوارد أن ينقسم "داعش"إلى فسيفساء وينتج عن ذلك جماعات وتنظيمات أقل قوة وأكثر انتشارًا على الصعيد الجغرافي، وأكثر تشددًا وتطرفًا وعنفًا وميلًا لسفك الدماء على الصعيد الفكري.
من التوابع المحتملة لهزيمة "داعش"أيضًا على الصعيد الفكري اشتداد النقاشات والجدل بين منظري الإرهاب والعنف حول أولويات القتال والمحاربة وتحديد ماهية العدو، وهل يتم استهداف العدو القريب أو العدو البعيد؟ أي يستد الصراع الفكري بين تنظيمي "القاعدة"و"داعش"مجددًا باعتبارهما أساس هذا الخلاف، لاسيما بعد اندحار وسقوط فكرة "داعش"بشأن إقامة "الخلافة"لا العمل على تهيئة التربة الحاضنة لقيام الدولة الإسلامية أولًا كما يرى منظرو "القاعدة".
التجارب تؤكد أن بذرة التطرف والإرهاب إذا غرست في أرض فستبقى فيها مالم تقتلع من جذروها عبر جهود مستدامة لدحضها ونشر التسامح والتعايش وقبول الآخر، وما حدث في سوريا هو هزيمة الفكرة، لا استئصالها، وبالتالي فهي موجودة وباقية، وستتوقف عودتها ونموها على ممارسات مرحلة مابعد "داعش"، وهل تهيئ الأجواء لتلك العودة ام تغلق الباب في وجهها تمامًا، وبالتالي فالمسألة لا تتوقف على استمرار الضغوط
العسكرية كما يعتقد المسؤولون الأمريكيون بل تتوقف بدرجة أكبر على ترميم ما افسدته "داعش"ومعالجة مظاهر الفقر والبطالة والجوع ووقف أي مظاهر للظلم الاجتماعي والتفرقة بين سكان المناطق التي كان التنظيم يسيطر عليها، باعتبار هذه المظاهر والممارسات ذرائع تستخدمها تنظيمات الإرهاب في التجنيد والاستقطاب.
ثمة تساؤل أيضًا حول مصير "فلول"التنظيم"في سوريا والعراق، وهناك يمكن القطع بأن التحول إلى العمل السري هو السمة الأساسية لهذه المرحلة، بحيث يتحول التنظيم إلى شبكة لا مركزية وأحيانًا فردية، أقرب إلى صيغة الذئاب المنفردة، في ظل صعوبة التواصل وتناقل الأوامر تبعًا للتراتبية التنظيمية التي كانت سائدة طيلة السنوات الخمس الماضية.
وهذه المرحلة ليست سهلة، فمن المعروف أن العمل الإرهابي السري لا يقل خطورة إن لم يكن يفوق الإرهاب المنخرط في إطار تنظيمي واضح يسهل استهدافه، فانتقال "داعش"إلى المناطق الجبلية ذات التضاريس الصعبة، بدلًا من السهول والمناطق السكنية، سيوفر لهم قدرة الحشد وإعادة تنظيم الصفوف، ومن ثم شن هجمات بين الحين والآخر لزعزعة ثقة السكان في قدرة السلطات على حفظ الأمن، وصرف أنظار السلطات عن أهداف أخرى مثل إعادة الإعمار والبناء وغير ذلك، ما يطيل امد الفوضى ويجعل عدم الاستقرار سمة أساسية في تلك المناطق.
اللافت ان تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية تشير إلى أن التنظيم لا يزال يتلقى تبرعات نقدية من الخارج تتراوح بين 50ـ 300 مليون دولار، وهي مبالغ مغرية لإبقاء حافزية عناصر التنظيم وفلوله واستمرارهم في ممارسة نشاطهم الإرهابي! وهذا أمر في غاية الخطورة، ويجب ان يؤخذ باهتمام لأن الحديث عن اندحار الإرهاب يدفع البعض للاعتقاد بأن عناصره قد تلاشت وانتهت، وهذه ليس حقيقة، فالتقديرات الدولية تشير إلى أن ما يتراوح بين 14 و18 ألف مقاتل مازالوا يتبعون "داعش"في العراق وسوريا بما في ذلك نحو 3 آلاف من المقاتلين الأجانب، فيما يعتقد جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا إن هناك ما يتراوح بين 15 و20 ألفا من مقاتلي التنظيم ينشطون في المنطقة والعديد منهم خلايا نائمة
أرقام كبيرة قادرة على إرباك أي دولة في حال واصلت هذه الاعداد الكبيرة نشاطها الإرهابي بشكل سري، وهذا مايجب بناء استراتيجية دقيقة بشأنها خلال المرحلة المقبلة، فهزيمة الإرهاب عسكريًا لا تعني نهايته