في ظل تسارع وتيرة التطور التقني، الذي يمضي بوتيرة هائلة تلاحقها الدول وفق مستويات مختلفة التباين، لأسباب تتعلق باختلاف القدرات التي تمتلكها هذه الدول على صعيد الانخراط في التطبيقات المعرفية والتكنولوجية.
ولأن إحدى وظائف التشريعات والقوانين في المجتمعات تتمثل في تحقيق السلم الاجتماعي من خلال صيانة العلاقة بين أفراد المجتمع، والحفاظ على الخيط الرفيع بين الحرية والمسؤولية، وحماية حقوق ومصالح أفراد المجتمع من أي تغول أو اعتداء من قبل الآخرين،
ولأن التشريعات والقوانين تتعاطى مع أنماط محددة من الجرائم، فإن التطور الحاصل في المجتمعات ينتج متغيرين مهمين أولهما تطور أدوات وآليات ارتكاب الجرائم، وثانيهما جرائم جديدة لم تشهدها المجتمعات تستخدم فيها أدوات التطور ووسائله، سواء عبر توظيف التكنولوجيا بشكل عام، أو عبر استغلال الثغرات المحتملة في البرامج والتطبيقات الالكترونية.
في ضوء ماسبق، يمكن القول بكل ثقة أن عصر التشريعات الجامدة التي تتعامل مع جرائم على مدار عقود قد ولى، بحيث تبقى مبادئ العدالة قائمة ثابتة، ولكن القوانين الرادعة والأحكام باتت خاضعة للتغير المستمر، سواء على مستوى النصوص، أو على مستوى الجرائم التي تتصدى لها والأهداف التي تسعى لتحقيقها، حيث لم يعد الردع الجزائي في بعض القوانين كافياً في ظل توظيف التقنيات الحديثة في ارتكاب جرائم يمكن أن تدمر اقتصادات دول وبناها التحتية بضغطة زر من أقصى الأرض!
وقد اتجه العالم منذ سنوات مضت إلى التعامل مع الجريمة الالكترونية تشريعياً، وانتبه الدول المتقدمة إلى أهمية تطوير تشريعاتها وقوانينها كي تواكب ما يمكن وصفه بالجريمة المستحدثة، وأصبحنا نسمع عن قوانين جديدة بين الفينة والأخرى، والعالم يتبادل التجارب والخبرات في هذا الشأن، لاسيما على صعيد التصدي لجرائم الإرهاب والتطرف.
وفي هذا الإطار، اتجهت الحكومة الأسترالية مؤخراً إلى استحداث قانون جديد صارم للتصدي لما وصف ب، تسليح منصات التواصل الاجتماعي" ومنع البث المباشر للجرائم"، كما حدث في المذبحة الإرهابية التي استهدفت مسجدين في مدينة كريست تشيرش النيوزيلندية مؤخراً، حيث قام الإرهابي اليميني المتطرف ببث جريمته على الهواء لمدة 17 دقيقة كاملة عبر منصة "فيسبوك"!
القانون الأسترالي يستهدف هذه المرة الشركات التي تمتلك منصات التواصل الاجتماعي وتقوم بتشغيلها، حيث يلزمها بضرورة حذف مثل هذا المحتوى على الفور، وإيجاد السبل الكفيلة باكتشافه بسرعة تمهيداً لإلغائه على الفور، حيث يعاقب عمالقة الانترنت من مشغلي وسائل التواصل الاجتماعي بغرامات تصل إلى ملايين الدولارات وعقوبات سجن للمسؤولين عن أي أخطاء يرتكبها من لم يتحركوا سريعاً لحذف المحتوى العنيف.
ميزة هذا القانون أنه ينهي فكرة عدم مسؤولية المشغل عن المحتوى الذي ينشر العنف والتطرف والإرهاب، حيث ظلت القوانين والتشريعات ـ حتى الآن ـ تتعامل مع عمالقة التكنولوجيا من منطلق المسؤولية الأخلاقية والمعنوية، وتتعامل معها بعض الدول بمنطق التهديد بحظر التطبيق أو حجبه، ويجد آخرون طرقاً أخرى للضغط على هذه الشركات عابرة القارات، التي باتت تمتلك نفوذاً يفوق نفوذ بعض دول العالم!
والمؤكد أن مثل هذه القوانين الصارمة باتت ضرورة ملحة لأسباب عدة، بخلاف التطور التقني، منها أن العالم الافتراضي بات ساحة نشطة للتجنيد والتدريب على الأنشطة الإرهابية، حتى أن بعض الدراسات تشير إلى أن الإرهاب التقليدي، سواء المحسوب زوراً وظلماً على الدين الإسلامي الحنيف، أو التطرف اليميني القومي والعنصري، لم يعد بخطورة التطرف القائم على الانترنت والمستمد منه، حيث حولت الشبكة الالكترونية إلى العالم إلى حي، لا قرية، صغيرة، وجعلت التواصل بين الإرهابيين في الكهوف والجبال مسألة ميسرة، وحدت من قدرة الأجهزة الأمنية على قطع التواصل بين عناصر الإرهاب ومموليه باعتباره ذلك أحد آليات تصفية نشاط التنظيمات الإرهابية.
إن دخول الإرهاب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، قد حولها إلى منصات تدمير اجتماعي بنشر الفكر المتطرف، وتحويل هذه المنصات إلى مراكز تدريب على الجريمة الإرهابية، ومن ثم فإن التصدي لكل ذلك مهم للغاية، لاسيما وأن العالم لا يزال في بدايات الثورة الصناعية الرابعة، ولا ندرك ماذا يمكن ان تسفر عن الأنشطة الإرهابية التي تواصل مواكبة التطور الحاصل على الصعيد التقني!