الحديث عن فكرة "موت"الديمقراطية يطُرح في الأوساط البحثية الغربية منذ سنوات طويلة، حيث اكتشف الكثير من المتخصصين والباحثين أن آليات الديمقراطية ليست "وصفة سحرية"لمعالجة "كل"أزمات السياسة، فأحياناً تكون الديمقراطية هي الأزمة ذاتها، والنقاش في هذا المقال لا ينتصر للديمقراطية كمبدأ أو فكرة، ولا يحاول الطعن فيه، بل نقاش علمي يستهدف تسليط الضوء على ما يدور من حولنا في الأوساط البحثية العالمية.
هذه الفكرة تبرز من جديد مع المأزق الذي تتعرض له بريطانيا على خلفية خطط رئيسة الوزراء تيريزا ماي للخروج من الاتحاد الأوروبي، وبعد أن رفض مجلس العموم البريطاني خطة ماي لـ"بريكسيت"بريطاني آمن مرات عدة، وتتزايد الضغوط على بريطانيا مع اقتراب المهلة التي منحها زعماء الاتحاد الأوروبي لماي لتقديم حل لخروج بريطانيا من الاتحاد بحلول الثاني عشر من ابريل الجاري، ولو كانت قد حصلت على دعم برلماني لخطتها لكانت قد حصلت على تمديد أوروبي حتى 22 مايو المقبل، وطالما أن ذلك لم يحدث فأمام رئيسة الوزراء البريطانية حتى الموعد الأول (12 أبريل الجاري) لطلب تمديد المهلة حتى تتجنب سيناريو خروج بلادها من الاتحاد من دون اتفاق، وهو السيناريو "الشبح"الذي يثير مخاوف الأوساط السياسية والاقتصادية في الجانبين على حد سواء.
بعد نحو 1000 يوم من تصويت البريطانيين بتأييد الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم تفلح تيريزا ماي إذن في التوصل إلى اتفاق خروج، بل بات مستقبلها كرئيسة وزراء وزعيمة حزب المحافظين على وشك الانتهاء.
والتساؤل المطروح هنا: هل يعني هذا المأزق عدم قدرة الديمقراطية على إيجاد حل للخروج اذا كان مقرراً من الأساس في التاسع والعشرين من مارس الماضي؟ وان الديمقراطية، تتحول في بعض الأحيان من آلية تسوية وتوافق إلى آلية معرقلة أو عقبة صعبة أمام الخطط السياسية؟ بعض الباحثين يقول ذلك ويستشهد بمواقف مثل الجمود السياسي الذي يحدث في بعض الدول بسبب عدم القدرة على التوصل إلى ائتلاف سياسي قادر على تشكيل حكومي تحظى بدعم برلماني، وغير ذلك من الحالات، ومن بين من قالوا بأن الحالة البريطانية دليل على "موت"الديمقراطية، دونالد ترامب الابن، نجل الرئيس الأمريكي، الذي نشر مقالاً بصحيفة "ديلي تلجراف"قال فيه إن الخلاف الجاري حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واحتمالات تأجيل هذا الخروج يشير إلى أن الديمقراطية في بريطانيا "قد ماتت".
لم يكن ترامب الابن هو من ابتدع المفهوم ولا أول من أطلقه، فقد سبقته بحوث ودراسات غزيرة، منها مانشرته الدورية الأمريكية الشهيرة "فورين افيرز"حول نهاية عصر الديمقراطية وما وصفته بالصعود الكوني نحو "الاتوقراطية"، وتضمن دراسات ومقالات عدة حول مسارات الديمقراطية في العالم، وهناك خبراء لهم اسهامات في هذا الموضوع مثل فريد زكريا وغيره، وتدور في مجملها حول نماذج حكم في دول متعددة وصولاً إلى القول بنعي الليبرالية الديمقراطية.
موضوع بريطانيا يختلف تماماً عن هذه النقاشات، ولكن يصب في المسار ذاته، وهو انحسار الديمقراطية سواء لإخفاقها في إيجاد التسويات السياسية، أو لأسباب أخرى حسب كل حالة على حدة، ولاسيما ما يتعلق بصعود اليمين المتطرف في السياسة الغربية بكل ما يمتلك من انحيازات فكرية وسياسية ضد الليبرالية والديمقراطية التي أوصلته للحكم، علاوة على ظهور إشكاليات أخلاقية ودينية مثل زواج المثليين باعتباره أحد الاختبارات التي تواجه الديمقراطيين الغربيين!
في الأوساط العربية هناك من يقول بأن تجربة الديمقراطية الوليدة في دول عربية هي من أوصلت تنظيمات دينية متطرفة إلى الحكم، وان صناديق الاقتراع نفسها هي من أوصلت الزعيم النازي إلى الحكم بكل مأساوية حكمه، وهذا صحيح تماماً من الناحية الواقعية والتاريخية، وهو نفس ماذكره ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات في كتابهما "كيف تموت الديموقراطية"، يحسين يشيران إلى أن الأنظمة الفاشية والاستبدادية في الغرب في مراحل تاريخية سابقة قد وصلت ايضاً إلى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية.
اعتقد أن تسارع موجات العولمة وما انتجته من موجات اللجوء والهجرة والثورة الهائلة في المعرفة والتواصل والاتصالات وغير ذلك يسهم في إعاقة تطبيق القواعد الحاكمة للعلاقة بين الأكثرية والأقلية في الفكر الديمقراطي، باعتبار ذلك أحد أسس تطبيق الفكرة انتخابياً وتنفيذها سياسياً، ومن ثم فالعالم قد دخل بالفعل مرحلة ما بعد الديمقراطية، وهذا يختلف عن مفهوم ألـ "نيوليبرالية"، المتعارف عليه، فالفكرة في مجملها باتت تخضع لتغيير لا يعرف أحد مداه أو مسارات تطوره، ولكن هذا لا يعني نهاية عصر الصندوق وفكرة الاقتراع، فما يشهده الغرب هو مرحلة من مراحل المد والجزر التاريخية، التي سبق ان مر بمثيلاتها، فالجدل حول الديمقراطية يتصاعد حين تضعف مؤسساتها، وليس دليلاً على ضعف الفكرة ذاتها، وهذه المؤسسات ليست فقط الأحزاب والبرلمانات، ولكنها تشمل بقية مكونات النظام السياسي مثل وسائل الاعلام والنظام القضائي ومنظمات المجتمع المدني وغير ذلك من مؤسسات تقوم على حراسة ما يعرف بالتقاليد الديمقراطية.