تزايد في الأيام الأخيرة الجدل حول محتوى ما يعرف بـ "صفقة القرن"، وازداد الجدل انتشاراً إثر نشر تقارير إعلامية حول بنود محددة تخص قضم أجزاء من أراضي دول عربية ضمن هذه الصفقة، التي تشير اغلب التسريبات الإعلامية إلى انها لن تعلن قبل شهر يونيو المقبل.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يضع كل رهاناته السياسية في الشرق الأوسط على إتمام هذه الصفقة التي يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، بحسب تصور المحيطين به على الأقل، وفي مقدمتهم صهره جاريد كوشنر، المسؤول الرئيسي عن الصفقة، الذي خاطبه الرئيس ترامب في بداية فترة حكمه قائلا "إذا لم تكن قادراً على تحقيق السلام في الشرق الأوسط فلن يستطيع أحد"، حيث يؤمن ترامب بقدرة كوشنر على عقد الصفقات، ويتولى مسؤولية الترتيب للصفقة، بجانب كوشنر، جيسون جرنبلات مبعوث الرئيس الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط، وديفيد فريدمان السفير الأمريكي في إسرائيل.
هناك كم هائل من التسريبات حول مضمون تلك الخطة، وبعض هذه التسريبات يتناقله مسؤولون سياسيون وباحثون وصحفيون معروفون بمصداقيتهم العالية، ولكن الإدارة الأمريكية تنفي في كل مرة ما يتردد على ألسنة البعض وتتداوله التقارير الإعلامية، بينما يؤكد مسؤولون أمريكيون من دون الكشف عن هويتهم، أن الصفقة لها شقان أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، وأن مضمونها الحقيقي ولاسيما الشق السياسي لم يطلع عليه سوى عدد محدود للغاية من مسؤولي الإدارة الأمريكية، وأغلب ما رشح عنها يتعلق بالشق الاقتصادي فقط، بينما تعمد المسؤولين عن الصفقة إخفاء بنود الشق السياسي حتى عن القادة العرب الذين زاروا العاصمة الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة، بل إن بعض التقارير الإعلامية الغربية تشير إلى استياء بعض هؤلاء القادة العرب من عدم ابلاغهم بتفاصيل وملامح تلك الخطة التي تتعلق بدولهم.
ما يدور الآن هو أشبه بحملة علاقات عامة لتهيئة الرأي العالم العالمي لتقبل ماتوصل إليه كوشنر وفريقه، لذا فإن هناك تسريبات إعلامية وسياسية متعمدة وبالونات جس نبض، وتصريحات تفصح وتكشف، وأخرى تنكر وتنفي، باعتبار ذلك الغموض المتعمد نوع من العمليات "النفسية" المستهدفة لضمان الحصول على أكبر تأييد للصفقة المزمعة. وبالتالي فإن الغموض هو جزء أساسي من تكتيك الفريق الأمريكي الذي يقوده كوشنر،
اللافت أن المسؤولين الأمريكيين يتعمدون نفي صحة بعض التقارير الإعلامية التي تتحدث عن بنود صفقة القرن ويتجاهلون الرد على بعضها الآخر، وهذا بحد ذاته لا يعني صحة النفي ولا صدقية المسكوت عنه، ففي الأخيرة المسألة برمتها لا تزال تخضع لاستراتيجية دعائية وتسويقية، فعلى سبيل المثال تشير بعض التقارير الامريكية إلى أن الخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط تتضمن ضم 10في المئة من مساحة الضفة الغربية إلى إسرائيل، وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، طلب من ترامب ضم 15 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وليس 10 في المئة فقط.
كوشنر أعلن أنه "سيتعين على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تقديم التنازلات"، وهذا مبدأ تفاوضي قائم ولكن الإشكالية التي يخشاها الجميع هو أن تكون التنازلات خاضعة لفهم منحاز للجانب الإسرائيلي، بمعنى مقايضة الأرض بالسلام، أي أن تحصل إسرائيل على الأرض نهائياً مقابل السلام، أي عكس مضمون مبادرة السلام العربية التي تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام أيضاً، ولكن من زاوية مخالفة، بمعنى استرداد الأرض العربية المحتلة مقابل موافقة العرب على السلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
الواضح الآن أن تخلي إسرائيل عن الأرض العربية بعيد تماماً عن أفكار القائمين على صفقة القرن، بحسب الواقع الذي يشير إلى قرارات إدارة ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، فضلاً عن التقارير الإعلامية الغربية التي تتحدث عن عدم رضا رئيس الوزراء الإسرائيلي عن ضم 10% فقط من ارض الضفة الغربية لإسرائيل ويطالب بنسبة 15%!!
الحقيقة أن المقدمات تؤدي إلى النتائج، ومجمل المقدمات التي تصدر عن الإدارة الأمريكية الحالية تشير إلى انحياز تام وكلي للجانب الإسرائيلي، وهذا الانحياز لا يصنع سلاماً قابلاً للحياة، واستبعاد ثوابت التسوية من أي حوار واللجوء إلى فكرة طرح صيغة تسوية وعلى الجميع القبول بها كلياً، مسألة مشكوك في تحققها، فالقضية الفلسطينية معقدة لدرجة لا يمكن معها القول بأن الحلول يمكن أن تغيب عنها العدالة ومراعاة مجمل عناصر الصراع. صحيح ان هناك حاجة لحلول وبدائل مبتكرة ولكن ليس على حساب الحقوق المشروعة والثوابت التي تضمن دعم كل الأطراف المعنية للتسوية السياسية إن كانت شاملة وعادلة.