عادت سوريا إلى الشرق الأوسط بقوة عبر البوابة السورية، وها هي تثبت في موقفها الداعم للجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر أنها استعادت موقعها كإحدى القوى الدولية المؤثرة في صناعة المشهد الشرق أوسطي.
هذه العودة تستند بالأساس إلى القوة العسكرية الروسية المتنامية، والتي اثبتت تفوقاً هائلا في السنوات الأخيرة، ويكفي أن وزير الدفاع الروسية سيرجي شويجو قد صرح مؤخراً بأن "القوات الروسية لم تكن قادرة قبل 6 أعوام على المشاركة في عمليات عسكرية في المناطق البعيدة جغرافياً عن روسيا بسبب نقص الأسلحة الضرورية والكوادر المدربة".
هذا الكلام الذي قاله وزير الدفاع الروسي أمام لجنة الدفاع بمجلس الدوما، يؤكد حجم ما حققته روسيا من تقدم وتطور على صعيد القدرات العسكرية من عام 2012 حتى الآن، وفي ذلك قال وزير الدفاع أن الجيش الروسى تسلَم أكثر من 1100 صاروخ مجنح خلال 6 سنوات، وأن الإجراءات التى تم اتخاذها بحلول عام 2019 سمحت بزيادة عدد حاملات الأسلحة طويلة المدى عالية الدقة براً وبحراً وجواً أكثر من 12 مرة، والصواريخ المجنحة عالية الدقة بأكثر من 30 مرة.
طفرة هائلة في القدرات العملياتية انعكست على أداء الجيش الروسي منذ تدخله في سوريا عام 2015 حتى الآن، وهو ماسبق أن أكده وزير الدفاع الروسي في تصريحات له في ديسمبر الماضي حين قال أن الجيش الروسى بلغ فى عام 2018 مستوى غير مسبوق من حيث تجهيزه بالمعدات والأسلحة الحديثة بحصوله على أكثر من 1500 نموذج من الأسلحة و80 ألف قطعة من المعدات، مؤكدا أن مؤشر تحديث الجيش الروسى بلغ 61.5 %..
وقد انعكس مستوى تطور الأسلحة الروسية على ردود أفعال الدول الغربية، حيث تؤكد دوائر متخصصة أن الأسلحة الروسية الجديدة، التي يعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين بين الفنية والأخرى ربما تحقق تفوقاً عسكرياً نوعياً لروسيا في مواجهة حلف الناتو، ومن ذلك ما ذكرته صحيفة ألمانية قالت إن صاروخ "تسيركون، الروسي الجديد أكثر فتكاً من المتوقع حيث تبلغ سرعته 11 ألف كيلومتر في الساعة، ويحتاج إلى خمس دقائق فقط للوصول إلى مبنى "البنتاغون" الأمريكي.
والملاحظ ان معظم الأسلحة الروسية الجديدة تبدو وكأنها تستهدف التفوق على أسلحة مناظرة في الترسانة العسكرية الأمريكية، فقد ذكرت البحرية الروسية مؤخراً أنها انتهت من اختبار منظومة صواريخ جديدة مضادة للطائرات، تدعى "بوليمينت.ريدوت"، التي وصفها البعض بأنها قادرة على "إبادة" صواريخ "توماهوك" الأمريكية.
وقد تسلطت الأضواء بشكل كبير على الأسلحة الروسية عقب تمسك تركيا بصفقة صواريخ إس 400 الدفاعية التي وقعتها مع روسيا، رغم أن ذلك يهدد فعلياً علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي، ويكفي للدلالة على الغضب الأمريكي مستوى التهديدات غير المسبوقة للضغط على تركيا للتخلي عن الصفقة، حتى أن المتحدث باسم "البنتاجون" أشار إلى "عواقب غير مسبوقة" في حال أصرت تركيا على شراء المنظومة الروسية.
الحقيقة أن هذه الصفقة تحديداً تمثل تحولاً نوعياً كبيراً في العلاقة بين تركيا وحلف الأطلسي، فتركيا، ثاني قوة عسكرية بالحلف، وتستعين بنظام دفاعي ليس فقط من خارج دول الحلف، ولكن من الدولة التي يعتبرها الحلف الخصم الاستراتيجي الرئيسي له!
الحلف يبرر غضبه من القرار التركي بالمخاوف من تسرب أسرار عسكرية وفنية تخص قوات وتسليح جيوش دول الحلف إلى روسيا، أما الولايات المتحدة التي عرضت في السابق على تركيا شراء منظومة "باتريوت" كسبيل لإقناع أنقرة بعدم شراء منظومة الصواريخ الروسية المنافسة، فلن تجد أمامها سوى ممارسة أقصى العقوبات ضد تركيا لأن المسألة بالنسبة للولايات المتحدة لا تتعلق بالأسرار التقنية والعسكرية فقط، بل بسمعة السلاح الأمريكي وتسويقه عالمياً، إذ كيف لدولة اطلسية أن تشتري سلاحاً منافساً؟
أحد أوراق الضغط الأمريكية القوية في مواجهة الخيار التركي تتمثل في رفض استكمال صفقة مقاتلات "إف 35" المعروفة باسم "الشبح" لتركيا، والتي يفترض أن تكون قادرة على الإفلات من هذه المنظومة من الصواريخ الروسية، حيث تسلمت تركيا أول دفعة من من هذه الصفقة في يونيو الماضي، إلا أن هذه المقاتلات لا تزال في الولايات المتحدة لتدريب الطيارين الأتراك عليها، وهي عملية قد تمتد لسنة أو سنتين حسب البنتاجون.
الحقيقة أن التفاعلات الدائرة حول صفقات الأسلحة لا ترتبط فقط بحسابات التفوق العسكري للقوى الإقليمية والدولية والمنافسة الاستراتيجية بين الخصوم والحلفاء، ولكنها ترتبط أيضاً بشكل وثيق بحصص الدول المنتجة للأسلحة من سوق مبيعاتها العالمية، التي بلغت إجمالاً نحو 398 مليار دولار في عام 2017، بحسب معهد استوكهولم (سيبري) الذي قدر نصيب الولايات المتحدة من مبيعات الأسلحة في العالم بنحو 57%، أي نحو 226 مليار دولار، من بينها مشتريات وزارة الدفاع الأمريكية نفسها، بينما بلغ إجمالي مبيعات الشركات الروسية العشر الكبرى ضمن أكبر مئة شركة دفاع عالمية ما يقرب من 10 في المئة من المبيعات العالمية، حيث حازت شركة "ألماز-أتي" المنتجة لأنظمة الدفاع الجوي ومن بنيها منظومة "إس 400"، على مبيعات قدرها 6ر8 مليار دولار، وهي أرقام لا تزال أقل بكثير عن مبيعات شركة أمريكية ضخمة مثل "لوكهيد مارتن"، أكبر بائع للأسلحة في العالم بمبيعات بلغت نحو 50 مليار دولار عام 2017.
صحيح أن أرقام مبيعات الأسلحة الروسية لا تزال بعيدة عن المنافسة مع نظيرتها الأمريكية، ولكن من يخطط على المدى البعيد ويأخذ بالاعتبار وتيرة تطور الأسلحة الروسية كما ذكرت في بداية المقال، يشعر بأن هناك تهديد خطير يستحق التوقف عنده ملياً، فروسيا العائدة بقوة للمسرح العالمي تريد أن تترجم قوتها إلى مناطق نفوذ جديدة باستخدام مبيعات الأسلحة المتقدمة التي تعد احد أهم مصادر التمدد وكسب النفوذ عالمياً.