لم يكد العالم يتنفس الصعداء عقب هزيمة تنظيم "داعش" في العراق ثم سوريا، حتى اندلعت في الأيام الأخيرة موجة إرهاب جديدة بدأت في أفغانستان باستهداف مقر وزارة الاتصالات في اعتداء إجرامي تبناه تنظيم "داعش" الإرهابي وأسفر عن مقتل واصابة نحو عشرة مدنيين، فيما نجحت قوات الأمن في انقاذ المئات بإجلاء أكثر من 2800 شخص من المبنى الحكومي، ثم جاءت سلسلة تفجيرات الكنائس في العاصمة السيريلانكية، كولمبو، والمدن المجاورة بالتزامن مع احتفالات عيد الفصح في واحدة من أخطر موجات الإرهاب، حيث بلغ ضحاياها أكثر من 300 قتيلاً ونحو 500 جريح.
التفجيرات التي طالت الكنائس في سيريلانكا تنذر بتفاقم التهديدات الإرهابية ليس فقط لأن ضحاياها يناهز ضحايا الصراعات العسكرية التقليدية، ولكن أيضاً لأن مخطط تنفيذ هذه التفجيرات يشير إلى ارتفاع مستوى الخطر بدرجة تستحق وقفة جادة وصارمة من جميع الدول المنخرطة في مكافحة التطرف والإرهاب الدولي.
وإذا كان منفذو الهجمات الإرهابية ضد الكنائس في سيريلانكا ينتمون إلى السكان المحليين، فإن هذا الأمر لا ينفي بالمرة خطر التنظيمات الإرهابية العابرة للقارات، حيث بات من الصعب القطع بانتفاء أي صلة لهذه التنظيمات بالهجمات التي تشنها تنظيمات إرهابية محلية في أي دولة من الدول، وذلك لأسباب عدة أولها انتشار ما يعرف بفروع تنظيمات الإرهاب ولاسيما "داعش"، الذي تبنى بالفعل اعتداءي سريلانكا وأفغانستان، حيث بات التنظيم يعتمد على عناصر محلية تم تدريبها وامتلكت خبرات في ساحات صراع مثل سوريا وغيرها، وثاني هذه الأسباب تنامي ظاهرة الذئاب المنفردة التي تعمل في سياقات فكرية مع تنظيمات الإرهاب وتنفذ ما يملى على ما يمكن وصفه بالتنظيم الافتراضي الذي يتكون من شبكة لا محدودة وغير معروفة من المتعاطفين فكرياً مع منظري الإرهاب، وثالث الأسباب أن معظم تنظيمات الإرهاب باتت تلجأ إلى تجنيد واستقطاب خلايا نائمة في دول مختلفة وتصدر إليها تعليمات بتنفيذ جرائم إرهابية ضد أهداف محددة وفي توقيتات بعينها، وهذه الخلايا لا تختلف عن الذئاب المنفردة سوى في الإطار التنظيمي ومستوى الالتزام والتواصل مع قادة تنظيمات الإرهاب. وثالث هذه الأسباب أن هزيمة تنظيمات الإرهاب في ساحات نشاطها في دول عدة في الآونة الأخيرة ربما يدفع الإرهاب إلى توسيع دائرة نشاطه جغرافيا لتشتيت الانتباه وإرباك الأطراف المعنية بمكافحته وملاحقة عناصره، علاوة على أن العمل في مناطق ليست موضع تركيز أمنى ربما يسهم في تحقق أهداف هذه التنظيمات التي تسعى في المرحلة الراهنة إلى رفع معنويات عناصرها وكوادرها واستعادة الثقة في قدرة هذه التنظيمات على تنفيذ جرائم جديدة وتحقيق أهدافها الخبيثة.
والأمر الملاحظ في تفجيرات سريلانكا أن أدوات التنفيذ تبدو بدائية في معظم الجرائم التي وقعت في العاصمة كولومبو والمدن الأخرى، بحسب ما تشير التقارير الرسمية حتى الآن، فهناك عبوات ناسفة يدوية الصنع وهناك ماوصف بقنابل "منزلية الصنع" عبارة عن أنبوب بداخله متفجرات، فضلاً عن التنوع في تنفيذ الجرائم الإرهابية بين التفجيرات التقليدية والانتحارية.
هناك ملاحظات مهمة في اعتداءات سريلانكا منها أن بعض الإرهابيين المتورطين من أبناء الطبقة الثرية في البلاد، والأبناء ينتمون إلى جماعة "التوحيد الوطنية" وتلقوا تعليمهم بالغرب، وهذا يعيد إلى الذاكرة تجربة أسامة بن لادن مؤسس "القاعدة" وينفى فكرة الارتباط القطعي بين الظروف المعيشية والإرهاب، حيث أكد مسؤولو الأمن السريلانكيون أن معظم المفجرين كانوا من الجالية المسلمة المزدهرة في البلاد، والتي تمثل أقل من 10 في المئة من السكان. ولا شك أن انتماء معظم ارهابيو اعتداءات سريلانكا إلى طبقة الأثرياء مسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث من الأجهزة الأمنية، التي تركز عادة على المناطق الفقيرة باعتبارها مخازن بشرية لتفريخ الإرهاب.
ثمة ملاحظة أخرى تكمن في عدم وجود أي مؤشرات أو دلائل تثبت سفر الإرهابيين إلى مناطق تمركز تنظيمات الإرهاب في الشرق الأوسط، أو قتالهم في صفوف "داعش" في سوريا والعراق، وهذا الأمر يؤكد فكرة تحول تنظيم "داعش" و"القاعدة" إلى "مظلة" فكرية تجمع المتطرفين والإرهاب سواء عبر الاستقطاب المباشر عبر الانترنت أو تأييد المتطرفين لأفكار هذه التنظيمات ومن ثم تنفيذهم لخططها من دون تعليمات مباشرة ضمن مايعرف بالذئاب المنفردة كما ذكرت آنفاً.
ملاحظة أخرى مهمة تتعلق بتهاون أجهزة الأمن أحياناً مع بعض المعلومات الاستخباراتية التي تتلقاها من أجهزة مناظرة، حيث ذكرت تقارير إخبارية أن أجهزة الأمن المغربية قد حذرت نظيرتها الهندية وأوضحت لها أن سفارة الهند في سريلانكا قد تتعرض لهجوم من قبل متطرفين فقامت الأخيرة بإعلام الجانب السريلانكي لكن الأخير لم يتخذ أي إجراءات لإفشال هذه الهجمات.
هناك أيضاً ملاحظة تتعلق بمنصات التحريض عبر الانترنت، حيث ثبات أن قائد خلية الاعتداءات زهران هاشم ينشر خطبه التحريضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويدعو فيها إلى قتل غير المسلمين، ولم يتم التعامل بجدية مع هذه التوجهات الإرهابية، بل إن التقارير تقول إن قادة المسلمين في سريلانكا قد حذروا السلطات من أنشطة هذا الشخص قبل عدة سنوات، حيث قال نائب رئيس مجلس مسلمي سريلانكا حلمي أحمد لوكالة "فرانس برس" إن هذا الشخص كان "منبوذاً من قبلنا ونجح فقط في تبني عدد محدود من الشبان الفكر المتطرف".
أضف إلى ما سبق تشدد أحد الإرهابيين أثناء دراسته استراليا، حيث قالت شقيقته "أصبح أخي متدينًا بشدة خلال وجوده في أستراليا، عاد إلى سريلانكا رجلًا آخر"، وهذا الأمر يعني أن التشدد لا يُكتسب فقط في المناطق التقليدية الفقيرة بل يمكن أن يكتسب في أي مناطق طالما توافرت الظروف والأسباب.