بعيداً عن أي نقاش أو جدل عبثي حول مكان اختفاء زعيم "داعش" أبوبكر البغدادي، الذي لابد أن هناك جهاز ما في دولة ما يعرفه تماماً، فإن النقطة الأهم في مسارات أنشطة "داعش" المقبلة تكمن، برأيي" في ضرورة فهم وبناء توقعات وتقديرات حول سيناريوهات العمل الإرهابي للتنظيم خلال المرحلة التي أسماها البغدادي بحرب الاستنزاف.
اعتقد أن هذه المرحلة قد بدأت بالفعل بتبني التنظيم لعمليات استهدفت إحدى الوزارات في أفغانستان، وأخرى استهدفت كنائس عدة في سريلانكا، والثانية هي الأخطر والأهم وتستحق الدراسة والتحليل ليس فقط لأن ضحاياها قد فاقوا ضحايا بعض الحروب التقليدية، ولكن لأنها استهدفت المسيحيين في بلد لم يعرف عنه أي حساسيات بين المسلمين والمسيحيين، ما يعني أن التنظيم لا يفكر بالطريقة المنطقية المعتادة بل يركز على تحقيق أهدافه الذاتية، ولا ينطلق من واقع حسابات الواقع القائم في المناطق والدول التي يستهدفها، بمعنى أنه اختار تطبيق استراتيجية الصدمة والترويع في مناطق تتسم بنوع من الضعف الأمني بغض النظر عن منطقية الأهداف لأن التنظيم نفسه يفكر خارج المنطق ولا يرى سوى ما يراه زعيمه ومنظروه، وبالتالي هم يوهمون انفسهم بما يرونه صحيحاً، وليس على الطرف الآخر أن ينساق وراء المنطق بل عليه أن يفكر من منظور مواز للعقلية الاجرامية الإرهابية التي تخطط لمثل هذه الاعتداءات الإرهابية.
الأرجح أن "داعش" سيعمل على توسيع النطاق الجغرافي لاعتداءاته وأنشطته الإرهابية، لاثبات قدرته على الحركة والعمل بعد خسارته عسكرياً للخلافة والدولة المزعومة، وهي الدولة التي كانت تمثل جوهر دعايته وجاذبيته لدى أتباعه والمتعاطفين معه من المغرر بهم شرقاً وغرباً.
وقناعتي أن المرحلة المقبلة لداعش هي الأكثر خطورة لأنها سيعمل خلالها على اثبات ذراعه الطولى وقدرته على سفك الدماء، علاوة على أن التنظيم لم يعد يعمل وفق تكتيك "الخطوة ـ خطوة" أي الرد على ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق باستهداف عواصم غربية على سبيل المثال للانتقام أو الضغط على صانعي القرار لسحب قواتهم من هذه الدول، وبات التنظيم يعمل الآن وفق استراتيجية مفتوحة بحيث يتاح لعناصره أن تخطط وتعمل وتنفذ في أي دولة يمكنها تحقيق اختراق أمني فيها.
علينا أيضاً ألا نتوقع طي صفحة التنظيم بهزيمته عسكرياً في سوريا والعراق، فلا يجب أن ننسى أن تنظيمات الإرهاب خطورتها الأساسية في الفكرة الجرثومية التي تغرسها في البيئات المجتمعية التي تتواجد فيها، وبالتالي علينا أن نخمن أن التنظيم لا يزال لديه مؤيدين وأتباع متعاطفين في المناطق التي سيطر عليها لبعض السنوات وكانت تضم ملايين السكان.
عملياً، زعيم "داعش" الهارب أعلن بنفسه من خلال الفيديو الأخير أن هناك 12 دولة ومنطقة يتواجد بها التنظيم، والغريب أنه لم يكن من بينها أفغانستان ولا سريلانكا اللتان تبنى فيهما التنظيم عمليتيه الأخيرتين، ما يعني أن القائمة تمتد لتشمل مناطق ودول يمكن أن ينشط فيها التنظيم من دون تواجد تنظيمي وحركي فعلي، او اعتماداً على ذئاب منفردة وخلايا نائمة.
تجربة المرحلة التاريخية التي عرفت بـ "الجهاد الأفغاني" تشير إلى أن العائدين من جبهات الصراع في سوريا سيشكلون ملامح المرحلة المقبلة في الصراع مع الإرهاب، فأينما توجهوا سيعملون على الاستفادة الخبرات القتالية الكبيرة التي اكتسبوها في سوريا خلال السنوات الماضية، ولو وجدوا من يزودهم بالأموال فمن السهل عليهم أن يبدؤوا مراحل جديدة تحت مظلة أفرع لداعش أو إطلاق جيل جديد من تنظيمات الإرهاب!
والحقيقة أن فكرة القتال ضد الإرهاب وتنظيماته لن تكون قصيرة الأمد، فهي معركة ممتدة عبر التاريخ، والحد من هذه الظاهرة الاجرامية يتطلب جهوداً مكثفة موازية لنشر التعايش والتسامح والتصدي لدعاة صراع الحضارات والأديان ولاسيما من الدول التي تمتلك مشروعات قائمة على أفكار طائفية او مذهبية مثل إيران، وانهاء الصراعات التاريخية القائمة مثل قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتعزيز ثقافة المواطنة وحقوق الانسان باعتبار ذلك كله ذرائع قائمة ومحتملة تتسلل منها أفكار الإرهاب والمتطرفين إلى عقول الشباب وقلوبهم!