تساؤلات كثيرة وتحليلات عديدة طرحت ونشرت منذ أن ظهر أبو بكر البغدادي زعيم "داعش" في فيديو نشره التنظيم مؤخراً، والأهم من بين هذه التساؤلات والتحليلات يتعلق ـ برأيي ـ بمغزى ظهور البغدادي في هذا التوقيت؟
البغدادي اختار التوقيت الراهن بالتحديد ليعترف لأنصار التنظيم واتباعه بسقوط دولة الخلافة المزعومة ويعمل على رفع معنوياتهم والتمسك بما تبقى له من دور في ساحة الإرهاب، وليس مفاجئاً، لأي متخصص أو باحث، أن يتزامن حديث البغدادي عن تدشين ما أسماه "حرب الاستنزاف" وتبني التنظيم لسلسلة عمليات إرهابية في أفغانستان وسريلانكا وجنوب ليبيا، باعتبار أن هذه العمليات هي مؤشر على ما يقصده البغدادي بحديثه.
لا يهمني في كثير مظهر البغدادي في الفيديو، حيث حظي مظهره بكثير من الاهتمام الإعلامي والتحليل السياسي، ولا اعتقد أنه قصد ان يحاكي مظهر أسامة بن لادن مؤسس "القاعدة" وزعيمها السابق، ولا طريقة ملبسه ولا حتى أسلوب إخراج الفيديو، بحكم أن المسألة كلها تدور في إطار تضييق أمني كبير لا يسمح سوى بهذه اللقطات الفقيرة إخراجياً، علماً بأن "داعش" كان قد أحدث قفزة نوعية كبيرة في مسألة الدعاية والاعلام مقارنة بأساليب وتكتيكات "القاعدة" التقليدية، والسبب في ذلك كان وجود عناصر شابة متعلمة، بعضها من أبناء مسلمي الجيلين الثاني والثالث في الغرب، تجيد التعامل مع التقنيات الحديثة، وبالتالي فإن التخلي عن هذا التطور يعني أن البغدادي قد هبط إلى قواعده التنظيمية التقليدية التي انطلق منها التنظيم حيث انفض من حوله هؤلاء الاتباع الذين يجيدون فنون الدعاية والتسويق الإعلامي!
ما يهمني أيضاً في حديث البغدادي أنه تراجع عن كثير من شعارات "داعش" وبات حديثه مطابقاً لخطاب "القاعدة" ولاسيما مايتعلق بجدلية "العدو القريب" و "العدو البعيد"، فأحد نقاط الاختلاف بين منهجي التنظيمين الإرهابيين أن "داعش" قد تبنى منذ تأسيسه فكرة العمل ضد "العدو البعيد"، ويقصد بذلك الدول المتحالفة مع الدول العربية والإسلامية، بينما تبنى "القاعدة" فكرة العمل ضد "العدو القريب" أي توجيه انشطته الإرهابية ضد أنظمة الحكم والدول العربية الإسلامية. ولكن حديث البغدادي عن الحراك الحاصل في بعض الدول العربية ربما يعكس توجهاً مختلفاً نسبياً للنهج الداعشي، ويبدو أن انهيار دولته المزعومة قد تسبب في نوع من المراجعة الفكرية، والعودة إلى الفكر المتطرف الذي تربى عليه في شبابه، حيث فشلت فكرة إقامة "الدولة" وبالتالي يعود إلى فكر "القاعدة" الذي يختلف عن منهج "إدارة التوحش" الذي انطلقت منه "داعش"، ويقوم على تهيئة المجال لإقامة ما يعرف بالدولة الإسلامية.
الاختلاف الظاهرـ حتى الآن ـ في فكر البغدادي قد يعني للبعض بناء مشتركات جديدة مع تنظيم "القاعدة"، وبالتالي بروز احتمالية تحالف التنظيمين الإرهابيين، ولكن هذه الفكرة ليست واردة في ظل ما عرف عن زعماء الإرهاب من رغبة في الشهرة وصراعات على السلطة داخل التنظيمات، علاوة على أن "القاعدة" ذاتها لم تعد تمتلك نفوذاً يغري البغدادي بالتحالف معها في ظل تفكك التنظيم الاقدم عملياً، واختفاء الظواهري منذ فترة طويلة والأرجح أنه بات مهموماً أكثر بالحفاظ على حياته بدلاً من إدارة شؤون التنظيم الذي تفكك وانفرط عقده وتحول إلى مجرد مظلة تجمع الكثير من "الفروع" التي أعلنت انضوائها تحت لوائه.
بشكل عام، تجربة "القاعدة" توحي بأن "داعش" سيدخل، على الأرجح، مرحلة التحول إلى مظلة حركية وفكرية، بحيث لا يستطيع لملمة شتاته في منطقة جغرافية واحدة مرة ثانية، ولكن هذا التطور مرهون بالأساس برؤية الدول التي تمول التنظيم وأجهزة الاستخبارات التي تحركه، إذ أن تخلي هؤلاء عن البغدادي وعصابته في الوقت الراهن ربما يكون كفيلاً بموت التنظيم أكلينيكياً بمرور الوقت، ولكن المؤشرات تقول أن هناك من لا يزال يرى في التنظيم ورقة يمكن توظيفها في الصراعات وكسب النفوذ اقليمياً ودولياً.