يدرك كل من تابع إدارة السيدة جاسيندا لوريل أردرن رئيس وزراء نيوزيلندا للأزمة الناجمة عن المذبحة الإرهابية البشعة التي ارتكبها يميني متطرف في مسجدين بمدينة "كرايست تشيرش"، أنها نجحت في تحويل هذا التحدي الأمني الكبير إلى ما يمكن تسميته بأنجح حملة علاقات عامة سياسية تنفذها دولة في السنوات الأخيرة.
حولت السيدة أردون الأزمة من اختبار صعب يواجه تماسك ووحدة الشعب النيوزيلندي إلى إنجاز سياسي كبير على صعيدين: أولهما داخلي حيث تعاملت مع الجريمة الإرهابية لتخلق منها فرصة ثمينة لتعزيز اللحمة الوطنية والتماسك المجتمعي وترسيخ التعايش، وخارجياً نجحت في تسويق نموذج بلادها كواحة للتعايش والتسامح، وفوق هذا وذاك نجحت في الترويج لبلادها بحث أصبح اسم نيوزيلندا على ملايين الألسنة في العالم، كما أصبح اسم رئيس الوزراء يتردد بكل الاحترام والتقدير في وسائل الإعلامية العالمية.
من الواضح أن شخصية رئيسة الوزراء من النوع الذي يعشق التحديات، ويجيد التعامل مع المواقف الصعبة، رغم أن البعض شكك في قدرتها على إدارة هذه الأزمة الكبيرة عقب ظهورها في الدقائق الأولى التي أعقبتها وقد غلب عليها الحزن وصعب عليها تمالك عواطفها ومشاعرها إزاء مشاهد سفك الدماء، ولكنها سرعات ما اثبتت رباطة جأش وقدرة على العمل والتماسك وسط الظروف الصعبة، واتخاذ قرارات مصيرية ربما تكتب تاريخاً جديداً لنيوزيلندا، ولمَ لا وهي أول رئيسة وزراء في تاريخ بلادها، وهي أول سيدة تصطحب رضيعتها إلى مقر الأمم المتحدة، من دون تحسس لطبيعة الظروف والمنصب، بل كان زوجها جالساً بجوارها يحمل طفلتهما وهي تداعبها بين الفنية والأخرى وهي تلقي كلمة بلادها في المنظمة الدولية.
لم يكن تصرفها في معالجة الأزمة عفوياً بالمرة، فقد ذكرت أكثر من مرة أن الزعيم الجنوب افريقي الراحل نيلسون مانديلا يلهمها كثيراً، وبالتالي فلديها ثوابت وتوجهات قيمية واخلاقية استعانت بها في هذا الظرف العصيب لبلادها، واقدمت بشجاعة على خطوات ومعالجات لم تخطر على بال أحد، بل لم يكن أحد سيلومها لو لم تقدم عليها، مثل افتتاح جلسة البرلمان النيوزيلندي بقراءة آيات من القرآن الكريم، في بلد لا يزيد عدد المسلمين فيه عن واحد بالمائة فقط من تعداد السكان، نعم واحد بالمائة أو خمسون الف نسمة، لا عشرات الملايين، ولكنها تدرك أن المسألة ليست بالمقارنات الرقمية، بل بترسيخ المبادئ والقيم وتكريس قيمة المواطنة والقدرة على العيش المشترك بين مختلف مكونات الشعب، بغض النظر عن الاعداد والنسب وغير ذلك، لاسيما أنها تدرك أن الشعب النيوزلندي يتسم بالتنوع الكبير من حيث العرق والثقافة واللغة والدين، وأن هذا التنوع يجب أن يدار بدقة شديدة كي يستمر مصدر ثراء ثقافي، لا كتحد يجلب الإشكاليات ويفرز العراقيل التي تعوق التنمية.
الفكرة التي رسختها نيوزلندا في أذهان الجميع خلال إدارة هذه الأزمة أن العلاقة بين المكونات الدينية والعرقية والمذهبية للشعوب لا علاقة لها بالأعداد والإحصاءات، فقد ارتدت النساء جميعاً الحجاب تضامناً مع ضحايا المذبحة الإرهابية، وتم تنظيم حملات شعبةي واسعة شملت النساء والرجال والأطفال، لوضع رداء على الرأس بأي لون بالنسبة للسيدات ووضعه على الكتفين بالنسبة للرجال، وهذه نقطة لافتة ورمزيتها مهمة للغاية في التضامن المجتمعي الشامل.
ما لفت انتباهي شخصياً في مواقف السيدة أردرن وسياساتها أنها ليست من مشجعي الهجرة واللجوء إلى بلادها، بل وعدت في حملاتها الانتخابية بتبني إجراءات لتنظيم الهجرة والحد منها، وبالتالي فإن ما فعلته نقطة في صالحها وليست ضدها، فهي تفصل تماماً بين توجهاتها حيال الهجرة وبين المهاجرين الذي أصبحوا مواطنين نيوزيلنديين لهم كل الحقوق والواجبات، وحتى لو لم يكونوا مواطنين بعد، فلهم حق الحماية والأمن وكافة حقوق الانسان، وهذه هي الرسالة الحقيقة لكثير من الساسة والقادة في الغرب، الذين يهاجمون الهجرة بشكل عشوائي تسبب في اثارة الأحقاد والنعرات العنصرية، فرئيسة الوزراء النيوزيلندية تبني موقفها بناء على الواقع الاقتصادي والبطالة وارتفاع ايجارات السكن وتأثير المهاجرين على فرص العمل المتاحة، وليس انطلاقاً من اتجاهات عنصرية معادية للأجانب وغير ذلك.
وبالتالي كان من الطبيعي أن ترتدي الحجاب مرتين أثناء هذه الأزمة، الأولى خلال لقاء رموز الجالية المسلمة عقب المذبحة مباشرة، والثانية في يوم التضامن مع الجالية المسلمة بنيوزلندا، رافعة شعار "نحن شعب واحد"، كما استشهدت بحديث للرسول (صلى الله عليه وسلم) أثناء كلمتها في تأبين الضحايا، فيما انضم إليها الاعلام النيوزلندي بقوة رافعاً شعار "الاتحاد قوة"، فيما بث أذان صلاة الجمعة على التلفزيون والإذاعة الوطنية، حيث تردد صوت الأذان في مدينة كرايس تشيرش وفي أنحاء نيوزيلندا، والقيت خطبتا الجمعة باللغتين العربية والإنجليزية، وتم بثها على مستوى البلاد، حيث وجه إمام المسجد رسالة قال فيها " إن نيوزيلندا عصية على الانقسام والتفكك بسبب ما أظهرته من حب وتعاطف."
قدمت السيدة أردرن بالفعل درساً سياسياً مهماً في تطبيق قواعد علم إدارة الأزمات، وتحويل المحنة إلى منحة واقتناص الفرص للقفز على الخسائر وتحقيق الإنجازات، وتوحيد الشعوب أثناء المحن التي تكاد تزعزع وحدتها وتماسكها، والحقيقة أن ما ساعدها على ذلك أنها هناك أرضية خصبة للتسامح والتعايش في هذا البلد المسالم، بحيث يمكن القول أن رئيسة الوزراء بتصرفاتها الإنسانية المتحضرة قد كشفت عن الوجه المتسامح لبلادها ونقلته إلى العالم أجمع، فكان درساً كبيراً من بلد صغير بشعبه، ولكنه فاق كبار العالم في التعامل مع التعددية والتنوع السكاني والديني والعرقي والمذهبي.