خلال تفاعلات الأيام القلائل الماضي من التطورات المتسارعة للأزمة بين نظام الملالي الإيراني والولايات المتحدة، أوضح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخطوط الحمر التي سيؤدي تجاوزها إلى اندلاع حرب بين البلدين، أولها تعرض حياة أفراد القوات الأمريكية من عسكريين ومدنيين إلى خطر يؤدي إلى وفاة البعض منهم، وقد كان حادث اسقاط الطائرة الأمريكية من دون طيار شاهداً على أن مثل هذه الحوادث لا تكون عقيدة قوية لدى البيت الأبيض كي يأمر بضرب إيران، على اعتبار أن حسابات الربح والخسارة الاستراتيجية في سيناريو هذه الضربة لا يغذي فكرة تنفيذها من وجهة نظر الرئيس الأمريكي شخصياً.
الرئيس ترامب يدرك مبدئياً أن الكونجرس الذي يسيطر الديمقراطيون على مجلس النواب فيه لن يوافق على تمويل حرب ضد إيران ما لم تقع خسائر بشرية بين الجنود الأمريكيين، أو تتفاقم تهديدات إيران لإسرائيل بشكل يصعب الصمت عليه أو التريث بشأنه، وبالتالي فالبيت الأبيض يحتاج إلى غطاء قوي لإقناع الكونجرس بالاصطفاف إلى جانبه في قرار الحرب، وهذا ما يفسر أول الخطوط الحمر التي وضعها لنفسه في التصديق على قرار الحرب، حيث أكد صراحة بعد اجتماعه بمستشاريه في البيت الأبيض أن الخط الأحمر لإدارته مع إيران هو إيذاء أحد المواطنين الأمريكيين، مشيراً إلى أنه لم يكن هناك أي رجل او امرأة على متن الطائرة من دون طيار التي امر بإسقاطها "أحد الأغبياء من القادة الإيرانيين" على حد تعبيره.
هناك نقطة في غاية الأهمية تستحق التحليل في هذا الإطار، وهي أن تصديق الرئيس ترامب على الضربة الصاروخية / الجوية المحدودة كان سيجهض تماماً قراره بيع أسلحة للمملكة العربية السعودية بشكل عاجل ودون الرجوع للكونجرس، على اعتبار أن نشوب مواجهة عسكرية قد يعقد تماماً، في حين أن هناك فرصة لا تزال قائمة لتنفيذ القرار في ظل استمرار التهديدات الإيرانية المتزايد لحلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي.
يبقى لدى الرئيس ترامب حذر شديد تجاه الحروب، التي طالما انتقدها قبل توليه الرئاسة، حيث يعتقد أنها كلفت الولايات المتحدة مبالغ باهظة للغاية، ولكنه في الوقت ذاته يريد الحفاظ على هيبة الولايات المتحدة وكرامتها ولكن باستخدام أدوات وآليات استراتيجية أخرى، وهذان الأمران يفسران كيف تحول الرئيس ترامب الذي وصف سابقاً بأنه الرئيس الأكثر اندفاعاً في التاريخ الأمريكي إلى الرئيس الأكثر تريثاً والأقرب لمواقف الديمقراطيين بشأن خوض الحروب والصراعات العسكرية! ويفسر هو نفسه ذلك بقوله للصحفيين يوم الخميس الماضي "انظروا، لقد قلت إنني أريد الخروج من هذه الحروب التي لا تنتهي، وبنيت حملتي الانتخابية على ذلك، أريد الخروج".
والأرجح، برأيي، أن استراتيجية الرئيس ترامب التي تعتمد بشكل كبير على سياسة "غض الأصبع" لا تعمل بالشكل الفاعل مع نظام مغامر مثل النظام الإيراني، الذي رأى أمام عينيه كيف هبط الرئيس ترامب من أعلى شجرة التهديد في التعامل مع كوريا الشمالية إلى الأرض والترحيب بصداقة الزعيم الكوري الشمالي الذي كان يصفه بـ القزم الحامل لصاروخ"! فضلاً عن أن الملالي يتابعون جيداً تصريحات الرئيس ترامب التي لا يكف فيها عن التأكيد على عدم رغبته في الحرب، بل إنه قال بصراحة لافتة " أنا أهدئ جون.. وهذا في الحقيقة أمر مدهش" في إشارة إلى مدى حماس مستشار الأمن القومي جون بولتون ورغبته القوية في شن حرب ضد إيران!
ثمة خط أحمر ثان كشف عنه الرئيس ترامب وهو امتلاك إيران للأسلحة النووية، وهو خط أحمر قديم / جديد، ولكن الرئيس ترامب يريد أن يربط القدرات النووية بالقدرات الصاروخية الإيرانية، التي غابت تماماً عن الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة "5+1" ف يعام 2015.
هناك بالتأكيد خطوط حمر أخرى ترسمها الدائرة المقربة من الرئيس ترامب، ومن هذه الخطوط ما قاله السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام أحد أهم المقربين من الرئيس ترامب، الذي سبق أن قال ان الولايات المتحدة يجب أن تقصف البحرية الإيرانية ومصافي النفط في الاقدام على مزيد من عمليات عرقلة الملاحة في مضيق هرمز.
وهناك أيضاً خطوط حمر لحلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين في منطقة الخليج العربي، ولكن هذه تبقى رهن مدى تقاطعها مع مصالح البيت الأبيض ورؤيته الاستراتيجية، لاسيما فيما يتعلق بحسابات الرئيس ترامب بشأن إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، وهو عنصر يحتل مرتبة متقدمة ضمن حساباته السياسية الراهنة في اتخاذ القرار، فترامب لا يريد المغامرة بكل ما حققه من نجاحات وما يمتلكه من أوراق مثل الوفاء بكل وعوده الانتخابية، ويقدم في هذه الأشهر الحاسمة على خوض حرب قد تؤثر سلباً في فرص إعادة انتخابه.
وتأكيداً، فإن ملالي إيران قد درسوا كل هذه المعطيات التي تؤثر في قرار البيت الأبيض جيداً، ولكنهم يوظفونها بشكل معاكس في ممارسة ضغوط محكوم عليها بالفشل مسبقاً، ولن تسفر سوى عن دعاية رخيصة للنظام الإيراني، وهي أمور تتوافق مع طبيعة هذا النظام الذي لا يمكنه التعايش والبقاء في ظروف طبيعية، كونه يمتلك مشروعاً أيديولوجياً معادياً للأمن والاستقرار وينطلق من رؤية مبتسرة ضيقة الأفق لن يجدي معها العقل والحكمة للأسف الشديد.