لا شك أن الحرب التجارية المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين تمثل بوادر صراع عالمي حول السيادة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين، فالمسألة لا تتعلق فقط ـ كما يعتقد البعض ـ بعقوبات أمريكية ضد عملاق الاتصالات الصيني "هواوي" ولا هي قضية رسوم جمركية يتم فرضها، فكل هذه أعراض للصراع الاستراتيجي الذي يأخذ شكلاً جديداً من أشكال صراعات النفوذ الدولي.
لم تعد الآلة العسكرية هي عنصر الحسم الأساسي في مثل هذه الصراعات، لأنها لم تعد عنصر التفوق الأهم بحكم ما أصبح للاقتصاد وأدواته ومظاهره من مكانة هائلة ضمن منظومة القوة الشاملة للدول في هذا القرن.
الصراع الأمريكي ـ الصيني بدأ منذ سنوات مضت، ولكن القيادة الصينية ظلت تتعامل بهدوء ودبلوماسية، وأحياناً مناورات وخداع، لأنها تدرك أن هناك رغبة أمريكية في دفع الصين إلى خوض مواجهة استراتيجية مبكرة لحسم الصراع على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين.
القادة الصينيون يدركون، من واقع تاريخ بلادهم وتجاربهم المريرة في الصراع مع الغرب، أن من الضروري امتصاص أو احتواء عمليات التنمر الاستراتيجي بالقوة الصينية الصاعدة، وقد نجحت محاولاتهم خلال العقدين الماضيين، ولكن المسألة تبدو أصعب في ظل أساليب الرئيس ترامب الذي يصر على استفزاز الصين بكل الطرق، ولذلك فإن الصين تحرص تماماً على تجنب المواجهة مع الولايات المتحدة وتتعامل بهدوء شديد مع الاتهامات الأمريكية التي تطال شركات صينية عابرة للقارات، وتراهن بشكل أساسي على سرعة وتيرة النمو الاقتصادي الصيني، الذي تعتقد أنه سيسهم في بناء حالة من التوازن والندية التي ستجبر الولايات المتحدة على الكف عن سياساتها والتعامل مع الصين بشكل مغاير، كنتيجة طبيعية لمكانة الصين المتنامية في الاقتصاد العالمي.
الولايات المتحدة من جانبها تدرك خطر التفوق الصيني، وترى أن الوقت ليس في مصلحتها تماماً، وأن المسألة تتطلب "تعطيل" التقدم الصيني، ومن هنا يبدو الصراع بين قوة تريد كسب مساحات جديدة للتقدم والتمدد استراتيجياً، وأخرى تريد عرقلة هذا التقدم واستدراج الأخرى لصراع نفوذ مبكر قد يحول دون تحقق أهدافها العالمية.
الإجراءات العقابية الأمريكية ضد الصين، وآخرها إدراج شركة "هواوي" على القائمة السوداء، قد تصل بالقوتين إلى نقطة صدام فعلية، لأن هناك جوانب لو أقدمت عليها الصين سيصبح سيناريو الصدام أكثر قرباً، ومنها تصدير المعادن الصينية النادرة للولايات المتحدة، وهي المعادن التي تستحوذ الصيني على أكثر من ثلثي انتاجها العالمي وتدخل في انتاج الأجهزة الالكترونية الحديثة، وهي خطوة ليست هينة بالنسبة للصين، ولكن الإجراءات ضد شركة "هواوي" مسألة موجعة للجانب الصيني، وتختلف عن معارك الرسوم الجمركية التي اندلعت منذ أكثر من عام.
من الناحية الفعلية، لا تزال الصين تحاول تجنب سيناريو المواجهة مع الولايات المتحدة لأنها تدرك أنها ستكون الخاسر الأكبر في حالة احتدام الصراع في المرحلة الراهنة، وترى أن الوقت في مصلحتها، لذلك امتنعت الصيني ـ على سبيل المثال ـ عن شراء النفط الإيراني رغم ما يمثله من أهمية استراتيجية بالنسبة لها، ورغم أن هذا القرار جاء على عكس توقعات غالبية المراقبين.
الصراع الصيني ـ الأمريكي، الذي يأخذ ـ حتى الآن ـ شكلاً تجارياً واقتصادياً سينتج حتماً خلال المدى المنظور تحديات لدول العالم المختلفة، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون، التي تسعى لتعزيز علاقات التعاون الاقتصادي والتجاري مع الصين، حيث سيأتي وقت يصبح فيه بناء علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة والصين مسألة محفوفة بالأشواك، ويصبح الوضع أقرب إلى فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.