أسفرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي عن تغيرات نسبية ملحوظة في الخارطة السياسية الأوروبية، ففي بريطانيا تصدر حزب "بريكست" نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، وفاز الحزبان بأكثر من 45 مقعداً من إجمالي 73 كرسياً هي نصيب بريطانيا من عضوية البرلمان، بينما حل حزب الديمقراطيين الأحرار المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي ثانياً، وتراجع أكبر حزبين بريطانيين، العمال والمحافظين، إلى المرتبة الثالثة والرابعة من التصويت.
انتخابات البرلمان الأوروبي ترسم خارطة الرأي العام واتجاهات الشعوب الأوروبية بشكل عام من خلال اختيارات الناخبين لممثليهم في البرلمان الأوروبي، الذي يتكون من 751 عضواً، وقد شاركت بريطانيا في هذه الانتخابات إثر تأخر إجراءات مغادرتها الاتحاد الأوروبي رسمياً كما كان مقرراً في نهاية مارس الماضي، ومن ثم فقد وجبت مشاركتها في هذه الانتخابات باعتبارها لا تزال عضواً بالكيان الأوروبي.
وقد أثارت نتائج التصويت البريطاني الشكوك حول موقف الشعب البريطاني حيال "بريكسيت"، بل ازدادت بريطانيا استقطاباً، فرغم أن الحزب المؤيد قد خرج فائزاً في الانتخابات، فإن معارضي الخروج من الاتحاد الأوروبي قد حققوا نتائج جيدة أيضاً، ما يعني أن هذه القضية كانت أحد القضايا الحاسمة للتصويت، وبسببها أيضاً خسر الحزبين الرئيسيين بريقهما السياسي، لأنهما فشلا ـ حتى الآن ـ في امتلاك رؤية واضحة ترسم طريق المستقبل لمرحلة ما بعد "بريكسيت".
كما يبدو أن أصداء فشل رئيسة الوزراء تيريزا ماي في معركة "بريكسيت" قد تركت بصماتها على صناديق الانتخابات، فقد أخفقت ماي في رسم خارطة طريق مقنعة للخروج، بل أخفقت في اقناع أعضاء حزبها (المحافظين) بكل ماطرحته بشأن تنفيذ استراتيجية الخروج منذ أن وافق على ذلك الناخب البريطاني في استفتاء عام 2016، كما أخفقت أيضاً في إيجاد بدائل مناسبة مثل الدعوة لاستفتاء آخر بشأن الخروج من الاتحاد البريطاني.
والحقيقة أن هذا الإخفاق يعود بالأساس إلى الحملة السياسية التي سبقت الاستفتاء البريطاني، والتي لعبت دوراً في دفع الناخب البريطاني للموافقة على "بريكسيت" بحثاً عن مكاسب من وراء ذلك كما زعم قادة الحملة وقتذاك، ولكن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي كشفت عن خسائر كبيرة محتملة لبريطانيا على عكس مازعم دعاة الخروج، ماتسبب في مأزق كبير لرئيسة الوزراء تيريزا ماي.
التوجهات التي أسفرت عنها الانتخابات لم تقتصر على بريطانيا بل شملت أيضاً دولاً أخرى منها إيطاليا، حيث تقدم اليمين المتطرف والقوميون في إيطاليا وبريطانيا وفرنسا وبولندا، وعكست الانتخابات قلق الأوربيين بشكل عام إزاء المستقبل، وإدراك الناخبين لحيوية وحساسية القضايا المثيرة للجدل والخلافات السياسية في أوروبا، لذا فقد جاءت نسبة المشاركة في الانتخابات الأوروبية هي الأعلى من عقدين، وبلغت نحو 51% من الناخبين، وهذه النسبة بحد ذاتها توفر حصانة شعبية كبيرة للاتحاد الأوروبي، حيث توفر له ضمانة شرعية وتؤكد انه الناخب الأوروبي لا يزال متمسكاً بخيار الاتحاد.
فرغم تقدم نسبي لليمين المتطرف والقوميين، فإن الاشتراكيين والخضر والليبراليين والمحافظين قد حصلوا تقريباً على نحو 505 مقعداً من إجمالي مقاعد البرلمان الأوروبي، الذي يمثل نحو 500 مليون مواطن أوروبي، أي أن الاتحاد الأوروبي لا يزال محصناً ضد توجهات اليمين المتطرف والقوميين المناهضين لأوروبا موحدة.
ورغم أن موقف الناخب الأوروبي لا يزال متمسكاً بالاتحاد، فإن التغير النسبي في الخارطة السياسية للبرلمان الأوروبي يستحق الاهتمام والتحليل، لأن الأحزاب المعارضة للاتحاد تتقدم بنسب متفاوتة، وتجاوز بعضها أحزاب الوسط ويسار الوسط في دول مثل فرنسا حيث تقدم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان على تحالف الوسط بزعامة الرئيس ماكرون، كما خسر حزب المحافظين الألماني بزعامة المستشارة انجيلا ميركل جزء من الأصوات التي حصل عليها قبل خمس سنوات لحساب تقدم حزب البديل من أجل المانيا اليميني المتطرف.