بعد جولة محتدمة في الحرب التجارية الصينية ـ الأمريكية، واستهدفت ماقيمته 200 مليار دولار من الصادرات الصينية للولايات المتحدة تم رفع تعريفتها الجمركية لأكثر من الضعف، وبلغت الحرب ذروتها باستهداف عملاق الاتصالات الصيني "هواوي" وجعلها في بؤرة الاستهداف، ما تسبب في تراجع المبيعات الدولية للشركة بنسبة 40% خلال شهر مايو الماضي، جراء تكثيف الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضدها، ورغم أن الشركة الصينية العملاقة قد حاولت تصدير مؤشرات ثقة بالمستقبل بالتأكيد على ما تمتلكه من
قدرات تقنية لا يمكن منافستها ولاسيما تقنية الجيل الخامس، فإنها قد أعلنت عن خفض انتاجها بما يعادل 30 مليار دولار خلال العامين المقبلين، والسعي لتحقيق هدف ثبات معدل المبيعات على 100 مليار دولار خلال عامي 2019، و2000، فالمؤكد أن العملاق الصيني تاثر مؤقتاً بالعقوبات الأمريكية التي تحول دون حصوله على بعض التحديثات لنظام التشغيل "اندرويد" الذي تعمل به هواتفها.
ولا شك أن أحد أهم العوامل التي أثرت في موقف الرئيس ترامب وميله للتفاوض مع الصين هو رغبته في تحييد الموقف الصيني حيال أزمات دولية مهمة مثل كوريا الشمالية وإيران، فضلاً عن خشيته من الأثر السلبي للحرب الاقتصادية مع الصين، والتي قدرت الدراسات أنها تتسبب في خسارة الأسرة الأمريكية الواحدة نحو 500 دولار سنوياً جراء زيادة أسعار الملابس والسلع الصينية، وفق تقديرات أمريكية، والمسألة ليست هينة بالمرة ضمن حسابات الانتخابات الأمريكية، في ظل الإحصاءات التي تشير إلى أن نحو 70% من الأحذية و85% من الكماليات و40% من الملابس المباعة في الولايات المتحدة مصدرها الصين، لذا فإن تعبير "نحن محاصرون" الذي ورد على لسان الناطق باسم إحدى الجمعيات الأمريكية هو صحيح تماماً، لأن هناك منتجات معينة باتت تأتي حصرياً من الصين، وانتاجها في الولايات المتحدة سيجعل أسعارها أعلى بكثير نظيرتها الصينية، مادفع بعض التقارير المتخصصة للقول بأن فاتورة الحرب التجارية التي يشنها ترامب ضد الصين يدفعها المستهلكون الأمريكيون الذي يستعدون للذهاب إلى صناديق الاقتراع العام المقبل لاختيار رئيس أمريكي جديد أو تمديد فترة الرئيس ترامب لولاية رئاسية ثانية، والرسالة واضحة للجميع!
ربما يدرك بعض المتخصصين والخبراء منذ البداية أن فرض التعريفات ليس سوى تكتيك تفاوضي أمريكي، لاسيما أن الرئيس ترامب نفسه قد اعترف بان الحرب التجارية قد تسبب الضرر للاقتصاد الأمريكي، وأنه يراهن على تضرر الشركات الصينية على المدى البعيد، ولكن الواقع جاء مغايراً الذي رسمته الإدارة الأمريكية، فالصين لم تصدر إشارات رضوخ للضغوط الأمريكية، لاسيما انها تدرك أن هناك أبعاد استراتيجية لهذه الحرب التجارية، التي تستهدف في أحد جوانبها كبح جماح الصعود الصيني عالمياً.
على هامش قمة العشرين في اوساكا، وخلال جلسة محادثات استغرقت نحو 80 دقيقة، اتفق الجانبان الصيني والأمريكي خلال اجتماع عقده الرئيسان دونالد ترامب وشي جين بينغ، على استئناف المفاوضات التجارية، وتخفيف حدة الخلاف التجاري، الذي أدى إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، وخرج الرئيس الأمريكي بعد الاجتماع ليعلن: "عقدنا اجتماعا جيداً جداً مع الرئيس الصيني شي، كان (الاجتماع) ممتازاً، وسأقول ممتازاً"، وتراجع عن تهديده بفرض رسوم جمركية على رسوم إضافية على الواردات الصينية، والأهم أنه أكد على استعادة التعاون مع شركة "هواوي" واستمرار الشركات الأمريكية في بيع التكنولوجيا لها، بينما نقلت وكالة أنباء الصين الرسمية (شينخوا) عن الرئيس الصيني قوله: "إن الصين والولايات المتحدة لديهما مصالح متكاملة ومناطق تعاون واسعة ويجب ألا يقعا في ما يسمى بفخاخ الصراع والمواجهة".
بالتأكيد هي مفاجأة سارة لعملاق الاتصالات الصيني وأيضاً للأسواق العالمية، التي سقطت في فخ الركود والتباطؤ بسبب احتدام الحرب التجارية الصينية ـ الأمريكية المدمرة، ولكن السؤال: هل انتهت هذه الحرب مع استنئاف المفاوضات وعودتها إلى مسارها كما قال الرئيس ترامب؟ الأمر ليس كذلك بطبيعة الحال فالدراسات تقول إن الشركات الأمريكية والمستهلكين يتحملون 3 مليارات دولار شهرياً في صورة تكاليف ضريبية إضافية، وأنهم يدفعون معظم الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب، وأن الضحية الكبرى هم المزارعون والعمال في المناطق التي أيدت الرئيس ترامب في انتخابات 2016، فكيف إذاً يوازن الرئيس ترامب بين خسائر مؤيده ورغبته في تعزيز قاعدته الانتخابية وتوسيعها من خلال زيادة الوظائف وحماية العمال.
الانتخابات والأزمات العالمية تقف بقوة وراء سعي الرئيس ترامب للتوصل إلى تفاهم مع الصين في الحرب التجارية، حيث يثبت البيت الأبيض يوماً بعد آخر أن كلمة السر في سياساته هي "الصفقات" سواء مع الصيني أو غيرها من المنافسين التجاريين والخصوم والاعداء الاستراتيجيين.