ما يدور بين الولايات المتحدة والصين من صراع تجاري هو بالأساس صراع استراتيجي بامتياز، فبدلاً من تنافس مجمعات التسلح العسكري في عقود سابقة على منح دولها السبق والافضلية في صدارة التنافس العالمي، انتقلت قيادة السباق إلى شركات التكنولوجيا وعملاقة المعلوماتية والاتصالات مثل "هواوي" الصينية، و"جوجل" و"آبل" الأمريكيتان، وانتقلت مسارح العمليات من الصحارى والبحار والمحيطات وغرف العمليات القتالية إلى أسواق المال والمصارف وتحولت شاشات البورصات الخضراء والحمراء إلى
مراصد استراتيجية لنتائج الصراع أولاً بأول!
ورغم أن الخبراء والباحثين وكبار الاقتصاديين والساسة يترقبون أي اتفاق أو تفاهم صيني ـ أمريكي حول الخلافات التجارية، فإن فهم بيئة الصراع بشكل دقيق يشير إلى أنه من المستبعد فعلياً أن يثمر أي تفاهم أو توافق تجاري بين القطبين التنافس الشرس القائم بينهما، فالشواهد تؤكد أن التنافس أو بالأحرى الصراع الذي يأخذ طابعاً أو شكلاً اقتصادياً إنما هو صراع استراتيجي لن تختفي مظاهره طالما استمرت أسبابه وعوامله، فالتنافس الجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة يتزايد ويتعمق كل يوم، ويمضي بوتيرة متسارعة تفوق وتيرة الصراع التجاري، وبالتالي فإن أي اتفاق تجاري ستقتصر آثاره على الأرجح على الشق الاقتصادي من الصراع دون بقية الجوانب والمجالات، بل إن أي هدنة أو تهدئة للصراع الاقتصادية لن تكون ممتدة المفعول على الأرجح، لأن وتيرة التفوق الاقتصادي الصيني تفوق بمراحل نظيرتها الأمريكية، وبالتالي من البديهي أن تعود أسباب وعوامل الصراع في المجال الاقتصادي بأسرع مما يتوقع الجميع لأن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هيمنة البضائع والسلع والصينية وسيطرتها على الأسواق الأمريكية، لأن هذا الأمر لا يعني فقط تعمق الاختلال في ميزان التبادل التجاري، ولكنه يعني أيضاً ارتفاع معدلات البطالة بين الأمريكيين واتجاه مزيد من الشركات الأمريكية للتصنيع في الصين والاستيراد منها.
الإشكالية التي تواجه الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي القائم تكمن في قطاع التكنولوجيا بالأساس، وهو القطاع الذي تتزايد وتيرة الهيمنة الصينية فيه بشكل واضح، لأن الازدهار والثروة والنمو الاقتصادي بات مرتبطاً بهذا القطاع الحيوي، الذي تحول إلى أهم ركائز الأمن القومي للدول في القرن الحالي، وبالتالي لم يكن غريباً أن تتحول شركات التكنولوجيا إلى نقطة استهداف محورية تتجه إليها عقوبات الدول الكبرى بشكل غير مسبوق، ونلاحظ أن الولايات المتحدة قد اتجهت إلى تشكيل تحالف دولي يستهدف محاصرة توسع "هواوي" الصينية، حيث حثت واشنطن حلفائها الغربيين على عدم الاستعانة بالعملاق الصيني في تأسيس شبكات الجيل الخامس للاتصالات المحمولة بدعوى أنها تقوم بأنشطة تجسسية على العملاء في الدول التي تعمل بها.
اللافت أن هذا الصراع يكتسب سمات الحداثة في القرن الحادي والعشرين، فالصين، على سبيل المثال، لديها فرصة الدفاع عن شركاتها في قلب الولايات المتحدة من خلال مخاطبة الجمهور الأمريكي عبر الصحف الأمريكية ذاتها، حيث شنت "هواوي" حملة علاقات عامة في الولايات المتحدة، ونشرت إعلانا في صحيفة "وول ستريت جورنال" وجهت فيه رسالة مباشرة مفادها أن على الأمريكيين "عدم تصديق كل ما يسمعون".
واللافت أيضاً أن الولايات المتحدة التي تضع الصين في خانة المنافس والخصم الاستراتيجي منذ أكثر من ثلاثة عقود، قد رفعت مستوى التهديد الصيني في الفترة الأخيرة، حيث كان لافتاً خطاب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس في أكتوبر الماضي حين قال إن الصين اختارت طريق "العدوان الاقتصادي" عوضا عن "الشراكة"، أضف إلى ذلك أن طموحات الصين الاستراتيجية باتت أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة.
أحد جوانب هذا الصراع أنه يمثل منافسة شرسة بين نظامين اقتصاديين مختلفين، أحدهما (الاقتصاد الأمريكي) قائم على السوق الحرة وقواعد الرأسمالية، والآخر (الاقتصاد الصيني) اقتصاد ذا خلفية اشتراكية يدار بآليات مركزية وتتحكم فيه الدولة ولكنه اثبت قدرة هائلة على النمو الاقتصادي اعتماداً على قطاع المعلوماتية والتكنولوجيا، وبالتالي فإن انتصار أي من النموذجين سيؤثر بالتبعية في السياسات الاقتصادية بدول العالم المختلفة.
الواضح حتى الآن أن مسار الحرب التجارية يبدو مضراً بالاقتصاد الأمريكي أكثر من نظيره الصيني، فالصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وزادت صادراتها بنسبة 7% العام الماضي، ما يعني تفاقم أي خسارة محتملة، وقد اقر المستشار الاقتصادي للرئيس ترامب، لاري كودلو، بأن الشركات الأمريكية هي التي ستدفع الرسوم الجمركية على أي بضائع تستورد من الصين، أي أن المستوردون الأمريكيون، وليس الشركات الصينية، هم من سيدفعون الرسوم الجمركية في صورة ضرائب للحكومة الأمريكية، وقد أشارت دراستان أكاديميتان نشرتا في شهر مارس الماضي إلى أن الشركات الأمريكية والمستهلكين دفعوا تقريبا التكلفة الكاملة للرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الواردات من الصين، ومن غيرها من دول العالم في العام الماضي، كما تشير تقديرات خبراء أمريكيين إلى أن الرسوم التي فرضت على شريحة كبيرة من الواردات، بدءا من الصلب، وحتى الغسالات، كلفت الشركات الأمريكية والمستهلكين 3 مليارات دولار في الشهر في صورة تكاليف ضريبية إضافية.
قد تهدأ الحرب التجارية أو ربما تتفاقم، ولكنها في جميع الأحوال لن تنتهي لأن الاقتصاد بات ساحة الصراع الاستراتيجية الرئيسية بين الصين والولايات المتحدة، وبالتالي فإن العالم مقبل على موجات مد وجزر لهذا الصراع، الذي لن تقتصر تبعاته على الاقتصادين الصيني والأمريكي، بل ستطال العالم أجمع، حيث سيدفع الجميع فاتورة كبيرة للتنافس القطبي مثلما دفع الجميع سابقاً تكلفة الحرب الباردة بين القطبين الأمريكي والسوفيتي.