قرأت مؤخراً تعليقاً لافتاً لمسؤول أمني أمريكي يقول تعقيباً على حادث إطلاق النار مؤخراً في إحدى الولايات "إذا شن مسلح مجنون مثل هذا الهجوم، فلن تكون هناك طريقة تتيح لضباط تطبيق القانون منع حدوثه، وأفضل طريقة هي أن تكون مستعدا للدفاع عن نفسك"! وقد فكرت ملياً في هذا الكلام، وتساءلت بيني وبين نفسي: كيف لأي شخص أن يكون مستعداً دائماً للدفاع عن نفسه؟ وهل هناك طريقة ما لأن يكون المرء في وضعية الدفاع عن النفس بشكل دائم؟ وماذا عن النساء والأطفال وكبار السن؟ وكيف يمكن تخيل سيناريو حدوث مواجهة مسلحة بين ارهابي والعديد من الموجودين في أي مكان عام! الحقيقة لم أجد إجابة مقنعة لأن الدفاع عن النفس بهذا المنطق لن يتحقق حتى لو حمل كل أفراد المجتمع السلاح بشكل وقائي، لأن المهاجم دائماً مايكون أكثر استعداداً وجاهزية بحكم تركيزه على هدفه دون غيره، ناهيك عن احتمالية عالية لمضاعفة اعداد الضحايا بسبب إطلاق النار من جانبين لا من جانب واحد!!
هذه القناعة اكدت لي أنه لا حل ولا مخرج من حالة التهديد المزمنة التي يمكن ان تجلبها التهديدات العنصرية سوى بمزيد من القوانين المحكمة وحصر حمل السلاح على مسؤولي الأمن والحماية المخول لهم ذلك، والعمل الجاد على استئصال ثقافة الكراهية بكل تجلياتها وأنماطها ومسبباتها ومظاهرها، سواء كانت عنصرية أو دينية أو عرقية أو غير ذلك.
إن تفاقم الإرهاب والعنف على خلفية الكراهية والعنصرية بات أحد أخطر التهديدات في القرن الحادي والعشرين، ولا ابالغ إن قلت إنه سلاح دمار شامل للمجتمعات، والأمر لا يقتصر على أحداث إطلاق نار في الولايات المتحدة بل يتعدى ذلك ليشمل اعتداءات متكررة على اللاجئين والمهاجرين في دول ومناطق شتى، وموجات متزايدة من العداء للأديان، والأمر في ذلك لا يقتصر على الدين الإسلامي بل يشمل أتباع مختلف الأديان والمعتقدات.
قد يسعى البعض لإراحة ضمائرهم بعض الشيء باتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإثارة النعرات العنصرية، وتأجيج الكراهية والانتصار للعنصر الأبيض، او اتهام اليمين المتطرف في دول أوروبية بالتحريض على الأجانب، ولكن هذه الاتهامات لا يجب أن تحول دون رؤية العوامل الحقيقية التي تغذي الكراهية والعنصرية في عالمنا. صحيح أن هناك توظيف سياسي واضح لفكر الأقليات ولعب على توجهات شرائح عرقية معينة في المجتمعات من أجل تحقيق مصالح سياسية، ولكن المسألة برمتها أبعد وأقدم واعقد من إطلاق تصريح أو إعلان موقف سياسي على خلفية عرقية أو عنصرية.
في البداية يجب الإشارة إلى ضعف سياسات الأمم المتحدة في هذا الموضوع، حيث تكتفي المنظمة الأممية بالاحتفال بشعارات التسامح والتذكير السنوي بالمبادئ التي نص عليها ميثاقها، وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، فضلاً عن تخصيص جائزة عالمية لتعزيز التسامح واللاعنف (جائزة اليونسكو ـ مادانجيت) وغير ذلك من مبادرات وسياسات تهدف إلى ترسيخ التعايش الإنساني العالمي.
هناك جهود كبيرة تبذل على مستوى دول، ومنها الامارات، التي تبذل جهود جادة من أجل نشر مفهوم الأخوة الإنسانية وبناء مشتركات تكفل التسامح وتضمن أسس التعايش الإنساني لتفادي الكراهية وضمان قبول الآخر وحرية العبادة والاعتقاد والتفكير ونبذ التعصب والتشدد والعنصرية ورفض الآخر.
ما يشهده عالمنا لا يقتصر على الكراهية الدينية والتناحر باسم الله، بل بات يشمل ردة مخيفة نحو عنصرية قرون وحقب ماضية طوتها البشرية ونجحت في تجاوز الكثير من آثارها ومخلفاتها الثقافية والاجتماعية، فلم يعد يمر يوم حتى نسمع عن اعتداء على لاجئين أو مهاجرين، بل مواطني دول ينتمون إلى خلفيات عرقية معينة في أوروبا والولايات المتحدة، بما يهدد جميع صيغ التعايش والأمن والاستقرار الاجتماعي في هذه الدول وغيرها من المجتمعات القائمة على تنوع وتعددية ثقافية وعرقية او دينية أو طائفية!
النزعات العنصرية بشكل عام لا يوقفها القانون فقط، حيث ثبت اخفاق الوسائل القانونية في كثير من الأحيان في التصدي للمحرضين على الكراهية واثارة النعرات العنصرية والطائفية، إذ تتقاطع الخيوط في أحيان كثيرة بين السياسة والمبادئ الأخلاقية الضامنة لاستقرار المجتمعات وأمنها، لاسيما عند الزج بمعايير الوطنية في أي نقاشات عقيمة تثير الجدل حول مفهوم الوطنية وحب الأوطان!
العنصرية والتشدد والتطرف والتحريض جميعها وجوه لجريمة الكراهية، وهي ممارسات يجب أن يتضمنها مفهوم الإرهاب، الذي يمثل الجدل والخلاف الدولي المستمر حول تعريفه أحد أهم أسباب استمرار جرائم العنصرية والكراهية، فلا يزال الكثيرون في عالمنا ينظرون لكل جريمة يرتكبها التطرف الذي يزعم الإسلام باعتبارها إرهاباً، بينما تصنف أي جريمة عنصرية باعتبارها جريمة كراهية! يجب ان نتفق على أن منبع الكراهية وأسبابها ونتائجها واحدة وإن تعددت الأساليب والممارسات والشعارات، فجميعها جرائم كراهية تقوض الأمن والاستقرار والسلم المجتمعي وتقوض فكرة التعايش العالمي، لأن مثل هذه الجرائم لا تقتصر آثارها على الدول والمجتمعات التي تحدث فيها، فهناك مايشبه العدوى واستنساخ الأفكار والممارسات في ظل العولمة الثقافية والمعلوماتية، وعلينا أن ندرك أن هناك فعل ورد فعل مضاد.
جرائم الكراهية جميعها ذات أسباب وخلفيات معقدة، بحيث يصعب القطع بأنها جريمة مجتمعية فقط أو جريمة مجتمعية ذات طابع سياسي، ولكن المؤكد أنها شأن سياسي بحت لأن آثارها ممتدة وتترك بصماتها على السياسة في الدول التي تحدث فيها.