رغم قناعتي بأن تجارب التاريخ ودروسها المستفادة لا تقدم بالضرورة تفسيرًا لكل ما يمر بالعالم من أحداث ووقائع، فإن مايحدث بين الولايات المتحدة والصين في المرحلة الراهنة يكشف عن نمط لا يختلف كثيرًا عن كل أنماط الصراعات التي شهدها التاريخ بين القوى الكبرى.
الحروب التجارية ليست طارئة ولا عابرة في تاريخ العلاقات الدولية، وإن اختلفت تأثيراتها وانماطها وحدود تطبيقها، والحرب التجارية المحتدمة بين واشنطن وبكين الآن هي أحد تجليات الصراع بين القوتين على الهيمنة والنفوذ في النظام العالمي القادم.
لا أحد يجادل في أن الولايات المتحدة هي القوة العظمي الوحيدة التي تتربع على عرش النظام العالمي القائم، ولا تنازعها في ذلك أي قوة عالمية، بل يمكن القول بأن استقراء مفردات قوتها العسكرية بمفردها، يجعل منها قوة مهيمنة لعقود قادمة، ولكن هذا الأمر يصبح موضع جدال وشك في حال أخذنا بالاعتبار معطيات وموارد القوة الشاملة للقوى الكبرى جميعها، وفي مقدمتها القوة الاقتصادية.
صحيح أن القوة الاقتصادية لوحدها لا تصنع قطبًا كونيًا مهيمنًا، ولكنها بالتأكيد قادرة على توفير دعم واسناد هائل لأي قوة كبرى تتطلع لمناطحة الباقين على النفوذ والهيمنة العالمية، فالقوة العسكرية لوحدها أيضًا ليست ضمانة لاستمرار الأقطاب في مواقعهم، بدليل أن روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق، لم تعد لموقع المنافسة ومزاحمة الولايات المتحدة على النفوذ منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة وحتى امتلكت روسيا بقية أسباب القوة ومواردها واستعاد اقتصادها قدرًا كبيرًا من العافية التي تتيح له توفير الموارد اللازمة للصراع الكوني سواء بتمويل برامج التطوير والتسلح العسكري، أو بالقدرة على تحمل ردود أفعال وسياسات الدول المنافسة، كما حدث بالنسبة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب موضوع أوكرانيا.
المهم أن الصين الآن في وضع الصعود القطبي، والتطلع للجلوس في كرسي القيادة العالمية بمشاركة قوة أو قوى أخرى وربما بمفردها لاحقًا، وهو طموح استراتيجي مشروع ولا أحد يستطيع انكاره، ولكن هناك من يحاول التصدي له ووأده في المهد، أو على الأقل الحد من وتيرة تسارعه.
منذ نحو خمسة عقود وربما أكثر، ظهرت في الولايات المتحدة أدبيات سياسية ودراسات مستقبلية حول مالآت القوة الأمريكية، وتساؤلات حول توقيت سقوط وانهيار الهيمنة الأمريكية على العالم وانطلقت معظم هذه الدراسات من قراءات لتجارب الماضي ودورة حياة الامبراطوريات العظمي التي شهدها التاريخ، واستخلاص الدروس من أسباب انهيارها واستنباط النتائج وتوظيفها في منح الإمبراطورية الامريكية القدرة على الاستمرار والمضي عكس اتجاه حركة التاريخ.
من هذه النتائج إبقاء عناصر القوة الشاملة في ذروة توهجها واستعدادها من خلال التطوير المستمر للقدرات العسكرية وضمان التفوق على جميع المنافسين الحاليين والمحتملين، وذلك من خلال العمل الدائم على "خلق"العدو، الذي يستنفر الجاهزية الاستعدادية الأمريكية على الدوام، وقد اتجهت هذه الدراسات في أوقات سابقة إلى حضارات الشرق عمومًا، ومنها الحضارة الإسلامية، واتخذت منها هذا العدو المتربص بالقوة الأمريكية، ولكن المتغيرات كشفت عن أن الصين تحديدًا هي القوة الأسرع صعودًا والأكثر تهديدًا للولايات المتحدة، فظهرت استراتيجية "آسيا أولًا"في نهاية عهد الرئيس السابق باراك أوباما، حيث اعيد ترتيب أولويات الاهتمام الاستراتيجي الأمريكية خصوصًا بعد زيادة انتاج النفط الصخري وانحسار أهمية منطقة الشرق الأوسط كمورد أساسي للطاقة للأسواق الأمريكية.
الحاصل الآن، أن هناك تسارع في وتيرة التنافس الأمريكي الصيني الذي يعود لسنوات طويلة مضت، وهناك جرأة وحزم صيني غير مسبوق في الرد على أي خطوة تقوم بها الولايات المتحدة ضد الصين، حيث احتدم الصراع بشكل غير مسبوق منذ وصول الرئيس ترامب للسلطة، وأخيرًا باستهداف عملاق الاتصالات الصيني (هواوي) في حرب ينظر لها الخبراء والمتخصصون باعتبارها صراع على تشكيل المستقبل.
والحقيقة أنه لم يكن متوقعًا صعود الصين للسيطرة على الاقتصاد العالمي قبل حلول منتصف القرن الحالي، ولكن معطيات السنوات الأخيرة تشير إلى أن هذا الصعود قد يحدث قبل هذا التوقيت، لاسيما ان العقوبات الأمريكية باتت تنبه الصين إلى ضرورة امتلاك البدائل لمواجهتها عبر بدائل تكنولوجية تضمن لها تفادي آثار هذه العقوبات، ما يشعل النار في حمى التنافس العالمي في مجالات التكنولوجيا والمعلوماتية.
هذا التنافس والصراع بات ينتج مفاهيم استراتيجية جديدة مثل توازن الرعب المعلوماتي، فالقوة الآن لمن يمتلك ناصية الحداثة المعلوماتية والتقنية، والغلبة ستكون لمن يستطيع الانتصار في حروب المعلوماتية التي امتد تأثيرها ليشمل إمكانية الحد من القدرات العسكرية التقليدية وغير التقليدية للخصوم والمنافسين بل واصابتها بالشلل تمامًا عبر هجمات الكترونية دقيقة على أنظمة الاطلاق والتوجيه والتحكم.