كشفت أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيدـ19) عن أزمة ثقة عالمية عميقة في أداء وفاعلية المنظمات الدولية، وفي مقدمتها بطبيعة الحال الأمم المتحدة التي لم يسمع لها صوتاً مؤثراً في إدارة هذه الأزمة وحشد الأعضاء في مواجهتها، ولكن الجدل الأكبر عالمياً يتمحور حول أداء منظمة الصحة العالمية، وهو جدل مصدره الأساسي اتهامات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنظمة بالتحيز للصين ومساعدتها في التستر على تفشي الفيروس في بدايات الأزمة، وهي اتهامات لا تحظى بدعم وتأييد عالمي ولكنها بالتأكيد تحظى بالاهتمام لاسيما بعد صدور قرار تجميد التمويل الأمريكي للمنظمة وسط أزمة صحية هي الأصعب في تاريخ المنظمة منذ تاسيسها في عام 1948.
في الحقيقة يجب التأكيد على أن الطعن في دور منظمة الصحة العالمية في هذا التوقيت الحرج قد لا يكون في مصلحة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، كونها أول المتضررين عالمياً من تفشي الفيروس، وبالتالي من مصلحتها أن تقوم المنظمة بدور فاعل في المواجهة وتنسيق الجهود الصحية عالمياً في ظل عدم وجود لقاحات أو علاجات حتى الآن، ما يعني أن هناك احتمالية عالية لاستمرار خطر انتشار الفيروس لمدة غير معلومة، ناهيك عن احتمالية وجود موجة ثانية وثالثة لهذ الخطر الداهم.
والحقيقة أيضاً أن اتهام بعض المنظمات الدولية بأنها "دمية" لبعض القوى الكبرى، كما هو حاصل حالياً من اتهام منظمة الصحة العالمية بأنها "دمية" بيد الصين، ليس جديداً، فمثل هذه الاتهامات بحذافيرها توجه إلى منظمات ومؤسسات دولية أخرى مثل مجلس الأمن ومنظمات دولية أخرى متخصصة تابعة للأمم المتحدة، وبالتالي فالإشكالية ليست في الاتهام بل في معضلة تذبذب الثقة التي تضرب هذه المنظمات، وتحول بينها وبين أداء دورها العالمي بشكل أكثر مهنية وفاعلية.
هناك اتهامات كثيرة موجهة إلى منظمة الصحة العالمية بأنها مارست التعتيم أو التستر على دور الصين في تفشي الوباء عالمياً، وأن اجراءات اعلان حالة الطوارىء العالمية واعتبار الفيروس وباء عالمي قد اتسمت بالتباطؤ، وأنها اخطأت في دعوة دول العالم إلى عدم إغلاق حدودها مع الصين، وقائمة الاتهامات والشكوك حيال دور المنظمة في هذه الأزمة مليئة بالكثير من الاتهامات المتشابهة، ولكن من الضروري أولاً تأجيل أي اتهامات للمنظمة إلى مابعد طي صفحة هذه الأزمة العالمية المعقدة، وثانيها البت في حقيقة وصحة هذه الاتهامات من خلال نقاش عالمي مهني متخصص وتفادي الاستثمار والتوظيف السياسي للموضوع ـ رغم صعوبة ذلك ـ لأن المسألة لا تتعلق فقط بالوصول إلى الحقيقة التي تهم سكان العالم أجمع، ولكن أيضاً لأن فهم ماحدث يسهم في استخلاص الدروس والعبر وتفادي تكرار أي أخطاء محتملة في المستقبل.
وإذا كانت هناك دعوات لإجراء تحقيق دولي يحسم الجدل حول مصدر تفشي فيروس "كورونا"، فإن أداء المنظمة يمكن مناقشته من خلال الدول الأعضاء، والتوصل إلى الحقائق في هذا الشأن لأن معظم الاتهامات الموجهة للمنظمة يمكن أن تكون ناجمة عن أخطاء مهنية أو فنية في إدارة الأزمة عالمياً، وبالتالي فإن استخلاص النتائج هنا يفوق في أهميته الاتهامات "السياسية" الموجهة للمنظمة، لأن العالم كله يتحمل عواقب أي اخفاق أو سوء إدارة لهذه الأزمة، ومن الضروري تصويب أي أخطاء ومعالجتها كي لا تتكرر في أي أزمات صحية محتملة مستقبلاً.
هناك وجهة نظر تقول أن الولايات المتحدة، بحكم كونها المتضرر الأكبر من أزمة تفشي فيروس "كورونا"، علاوة على كونها المساهم الأكبر عالمياً في ميزانية المنظمة بحجم تمويل يصل إلى 412 مليون دولار سنوياً، وهي عبارة عن 118 مليون دولار حصة الولايات المتحدة الرسمية في ميزانية المنظمة ونحو 300 مليون دولار يتم دفعها كمساهمات طوعية للمنظمة، يحق لها مساءلة المنظمة، وهذا واقع لا يمكن انكاره، ولكن من ناحية أخرى فإن توقيت المساءلة يبدو مهماً في مثل هذه الأمور.
وبشكل عام، ومن خلال مراجعة مواقف المنظمة زمنياً منذ ظهور الفيروس في مدينة ووهان الصينية في أوائل ديسمبر الماضي، يمكن القول أن الحذر المبالغ فيه كان السمة الأبرز لردود أفعال المنظمة وسياساتها، فلم تلجأ المنظمة على سبيل المثال للأخذ بالأحوط في معظم الأمور وراهنت على عامل الوقت في احتواء خطر تفشي الفيروس كما حدث في أزمات صحية سابقة، ولكن الموضوعية تقتضي القول أن نهج المنظمة في هذا الشأن ليس معزولاً عن نهج عالمي كامل، فجميع الدول الكبرى بلا استثناء كانت تتابع مايحدث في الصين منذ بدايات الأزمة، والكل أشاد بقدرة الصين وقتذاك على احتواء الخطر، وكان بإمكان أي دولة كبرى أن تصدر ما تشاء من تعليمات وقيود على التجارة والسفر من دون الرجوع للمنظمة ولا انتظار تعليماتها، وبالتالي فإن مسألة التباطؤ والتردد والحذر الزائد في التعاطي مع الأزمة كان الخطأ الذي وقع فيه العالم أجمع وليس المنظمة بمفردها.
من أبرز دروس هذه الأزمة، أن هناك بالتأكيد حاجة لإصلاح المنظمات العالمية جميعها كي تكتسب مزيداً من النشاط والفاعلية في أداء دورها، والأمر ينطبق على منظمة الصحة العالمية كما ينطبق على غيرها من المنظمات الدولية.