وسط حالة الفوضى والذعر والهلع الدولي بسبب تفشي فيروس «كورونا» وما تسبب فيه من خسائر بشرية واقتصادية وانكشاف غير مسبوق في قدرات الرعاية الصحية والاجتماعية للدول الكبرى، اتجه بعض الباحثين والمتخصصين لمناقشة تأثير الوباء على العلاقات الدولية؛ حيث اتفقت الغالبية على أن «كورونا» بات يمثل نقطة فاصلة في مسيرة النظام العالمي القائم، وأن ما بعده سيكون مختلفاً تماماً عما قبله، وهذا الأمر فيه قدر كبير من الصحة والوجاهة بالنظر إلى مخرجات الأزمة - حتى الآن - ولاسيما على الصعيد الاقتصادي.
النقطة الأكثر أهمية من وجهة نظري تتعلق بتأثير تفشي الوباء على هيكل القوة والنفوذ العالمي في مرحلة ما بعد «كورونا»، وهل تستمر الهيمنة والسيطرة للولايات المتحدة باعتبارها القطب الكوني الذي ينفرد بقيادة النظام العالمي، أم ستشاركه قوى أخرى مرشحة لذلك مثل الصين وروسيا ويصبح النظام العالمي متعدد الأقطاب أم يعود ذا قطبية ثنائية (الولايات المتحدة والصين) كما كان في مرحلة الحرب الباردة، أم أن الأزمة العالمية الناجمة عن وباء «كورونا» ستسفر عن انحسار وتراجع النفوذ الأمريكي لمصلحة نظيره الصيني وتصعد الصين للمرة الأولى إلى قيادة نظام عالمي جديد يعاد تشكيله وفقاً لأنماط القوة الشاملة وفي ظل مخرجات الأزمة وصعود بعض القوى وتراجع قوى عالمية أخرى؟
قناعتي الذاتية أن من السابق لأوانه القفز إلى خلاصات نهائية تتعلق بتوازنات القوى الاستراتيجية في مرحلة ما بعد «كورونا»، فالأزمة لم تزل مستمرة، ويبدو أنها ستستغرق شهوراً على أقل التقديرات، وما نراه الآن من تطورات متسارعة قد يكون قمة جبل الجليد في تأثير الأزمة على اقتصادات الدول جميعها وفي أبعادها ومجالاتها كافة، ولكن هذا لا يحول دون مراقبة بحثية دقيقة لما يجري ورصده بدقة باعتباره حدثاً عالمياً غير مسبوق يمتلك تأثيرات عميقة على الدول كافة، وسيكون له حتماً تأثيرات استراتيجية ولكن من الصعب التعرف على حدودها النهائية في الوقت الراهن.
ثمة نقطة حيوية أخرى يجري النقاش حولها تتعلق بعناصر القوة الشاملة للدول وترتيب هذه العناصر وأولوياتها في ظل أزمة تفشي وباء «كورونا»، حيث يرى بعض الخبراء أن انكشاف بعض الدول المصنفة على قائمة الدول المتقدمة في مواجهة الأزمة وتداعي أنظمتها الصحية وتهاويها بشكل غير متوقع ولا يتناسب مع قدرات هذه الدول وتصنيفها دولياً، سيدفع باتجاه إعادة النظر في الأولويات الخاصة بالأمن القومي للدول كافة، لاسيما أن خارطة التهديدات ومصادر الخطر في القرن الحادي والعشرين لم تعد تتصدرها الحروب والصراعات العسكرية التقليدية وانحسرت فرص نشوب حروب نووية أو مواجهات عسكرية تقليدية عالمية كما كان الحال في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تزايدت مستويات التهديد الناجمة عن تفشي الأوبئة والأمراض والحروب البيولوجية والتغير المناخي الناجم عن ظاهرة الاحتباس الحراري المسكوت عنها دولياً، ناهيك عن أن أنماط التهديد العسكري ذاتها لم تعد تقليدية بل تحولت إلى ساحات الصراع غير التقليدية مع تنظيمات الإرهاب وميلشياته، فضلاً عن ظواهر أخرى مثل الإرهاب الإلكتروني والحروب اللامتماثلة وغير ذلك من تهديدات ربما لا يتوافق معظمها مع هياكل الإنفاق العسكري التقليدية التي لا تزال تخصص ميزانيات ضخمة لتسيلح الجيوش بالعتاد التقليدي والبوارج الحربية والصواريخ بعيدة المدى.
ومن المؤكد أن أي مقارنة بين الإنفاق في مجال الرعاية الصحية والتسلح، على الصعد العالمية والوطنية، سيكون أكثر وضوحاً وفهماً للواقع، حيث تشير الإحصاءات الموثقة إلى أن الإنفاق العسكري العالمي قد ارتفع في عام 2019 بنسبة 4 % مقارنة بالعام السابق في زيادة هي الأعلى خلال العقد الماضي، ليصل إلى 1.73 تريليون دولار، بينما يبلغ الإنفاق العالمي على الصحة سنوياً نحو 7.5 تريليون دولار، وبحسبة بسيطة نجد أن نصيب الفرد من حجم الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية يبلغ نحو 975 دولاراً، بينما يبلغ نصيبه من الإنفاق الدفاعي نحو 224 دولاراً، أي أن المفترض أن الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية يبدو في وضع جيد في إطاره العالمي العام، ولكن هذه المقارنة لا تصح من الناحية الموضوعية والفعلية، لأن المعضلة لا تتعلق بحجم الإنفاق العالمي في المجالين العسكري والصحي، بل تتمثل في نقطتين رئيسيتين هما خارطة توزيع الإنفاق العسكري والصحي، وثانيهما مقارنة حجم الإنفاق بالاحتياجات في القطاعين؛ وهنا قد تبدو الصورة أكثر وضوحاً لأن التقارير الدولية المتخصصة تشير على سبيل المثال إلى أن الخدمات الصحية الأساسية لا تزال تغطي بالكاد نصف سكان العالم البالغ عددهم 7.7 مليار نسمة، وأن نحو 925 مليون نسمة ينفقون أكثر من 10 % من دخلهم على الرعاية الصحية منهم 200 مليون نسمة ينفقون أكثر من 25 % من دخلهم السنوي على الرعاية الصحية، وأن رفع الرعاية الصحية الأولى في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط يحتاج إلى 200 مليار دولار إضافية سنوياً.
قد يقول قائل هنا إن الأزمة في الرعاية الصحية لم تتركز في الدول النامية بل على العكس تماماً، فقط كانت دول الغرب وأنظمته الصحية أكثر معاناة في مواجهة أزمة كورونا، ولكن دعنا نقول أولاً إن تفشي الوباء قد تركز بالأساس في الصين والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وقلة الانتشار نسبياً في دول الجنوب، وأن الانكشاف الصحي الحاصل في بعض الدول الغربية يعود إلى عوامل عدة والمسألة ليست بالبساطة التي قد نتخيلها، فالولايات المتحدة وبريطانيا لديهما على سبيل المثال سريرين لكل ألف شخص وألمانيا لديها 5 أسرة واليابان لديها 7.8 أسرة لكل ألف شخص، وبالنسبة لعدد الأطباء نسبة للسكان، هناك انكشاف أمريكي، حيث تمتلك الولايات المتحدة 2.6 طبيب لكل ألف شخص، بينما تمتلك ألمانيا 4.3 طبيب وإيطاليا 4 أطباء لكل ألف شخص، ولكن الولايات التحدة تمتلك قدرات نوعية هائلة على صعيد التشخيص والعلاج، والمسألة لا تقاس أحياناً بالأعداد فقط بقدر ما تقاس بالقدرات النوعية والتأهيل العلمي، وعلينا أن نأخذ بالاعتبار متغيرات أخرى مؤثرة في المقارنات المعيارية مثل معدلات أعمار السكان، فنحو 30 % من سكان اليابان مثلاً يتجاوزن 65 عاماً، وكذلك 22 % من سكان ألمانيا، وهكذا يمكن فهم جزء من دوافع ارتفاع متوسطات الإنفاق على الرعاية الصحية في بعض الدول المتقدمة.
والخلاصة أن أزمة «كورونا» ستضيف حتماً للبشرية درساً جديداً يتمثل في ضرورة الاهتمام بكل مصادر الخطر والتهديد على حد سواء، والاهتمام بكل التفاصيل ذات الصلة بالأمن القومي بعد أن تحولت المستلزمات الطبية و»الكمامات» وأجهزة التنفس الصناعي إلى مجال للتنافس والتسابق للحصول عليها عالمياً، ولكن دون أن يؤثر هذا الاهتمام على أولوية القوة العسكرية التي لا تقتصر أهميتها على كسب الحروب بل تطال فرض الهيبة والنفوذ وردع الخصوم والمتنافسين الاستراتيجيين وصون سيادة الدول ومنجزاتها الاقتصادية والتنموية وحماية أراضيها وهكذا هي تجارب التاريخ القريب والبعيد.