لاشك أن حديث التصعيد العسكري بين الولايات المتحدة وإيران، مسألة متكررة في منطقتنا منذ ثمانينات القرن العشرين، ولا جديد في ذلك سوى ظروف التصعيد ومبرراته في كل مرة، ولذا فإن المراقب الموضوعي عليه أن يتعاطى بتحفظ وحذر شديدين مع ما يثار بين الفينة والأخرى حول سيناريوهات هذا التصعيد واحتمالات تحققه، ليس فقط لكونه سيناريو متكرر، ولكن لأن الظروف الراهنة ربما تتوافر على أقل فرص التصعيد العسكري احتمالية في تاريخ التوترات الأمريكية ـ الايرانية.
وإذا كان المنطق والحسابات الاستراتيجية تشير إلى صعوبة تحقق سيناريو التصعيد العسكري ونشوب مواجهة ثنائية أمريكية إيرانية مباشرة ، شاملة أو محدودة،، فإن علينا ألا نستبعد، من وجهة النظر التحليلية، عاملاً في غاية الأهمية والتأثير ويكاد يكون القاسم المشترك الوحيد بين الجانبين في هذه الظروف، وهو الظروف الداخلية الصعبة التي تحيط بكل من الرئيس ترامب وملالي إيران، وهي ظروف قد تفوق في تأثيرها حرص الطرفين على عدم تجاوز الخطوط الوهمية التي رسمها كل طرف لنفسه في هذا الصراع، والتمسك بسياسة حافة الهاوية وعدم السماح بالانزلاق إلى مواجهة مباشرة، بدليل قدرتهما على كبح جماح التداعيات التي واكبت أزمة مقتل الجنرال قاسم سليماني القائد السابق للحرس الثوري الايراني بهجمة أمريكية في العراق، حيث تفادي الملالي توجيه رد انفعالي وآثروا استراتيجية الدعاية والضجيج الاعلامي والاكتفاء برد صاروخي محسوب تفادياً لرد فعل أمريكي أكثر قسوة.
من الناحية العسكرية بمجمل جوانبها التكتيكية والعملياتية والنفسية، فإن خيار الحرب في هذه الظروف، التي يشهد العالم فيها نفشياً لوباء "كورونا" يبدو الخيار الأسوأ بالنسبة لإدارة ترامب، ولن يتسبب سوى في مزيد من الانقسام الأمريكي داخلياً، ويشعل مواجهة بين البيت الأبيض والديمقراطيين في الكونجرس، كما سيثير غضب الصين وروسيا، الداعمتان لإيران، ويمنح ملالي إيران ورقة مهمة لتشويه سمعة الولايات المتحدة عالمياً في لحظة تاريخية تتسم فيها العلاقات الدولية بالسيولة وغياب الوضوح، إذ أن علاقات شركاء الأطلسي في التوقيت الراهن ليست على مايرام، بل إن الشكوك باتت تطال مستقبل حلف الأطلسي ومصيره، وكذلك الكثير من التكتلات والتحالفات الدولية القائمة بسبب تداعيات فيروس "كورونا" واخفاق هذه التكتلات في اثبات قدرتها على تحقيق أهدافها وتوحيد جهود أعضائها في التصدي لهذا الخطر الصحي الذي داهم الجميع. نفسياً أيضاً يصعب على القوات الأمريكية حشد جهودها في الظروف الراهنة لتوجيه ضربة عسكرية فاعلة ضد إيران، حيث يصعب الفصل تماماً بين الجاهزية العملياتية والقتالية من ناحية وبين الظروف الناجمة عن تفشي الوباء وقلق الجنود الأمريكيين على أسرهم وعائلاتهم وقلقهم من جاهزية المنشآت الصحية الأمريكية في الداخل والخارج للتعامل مع أي إصابات قد تقع جراء المواجهة العسكرية.
وقناعتي الذاتية، أن القول الفصل في هذه الاحتمالات عائد بالأساس إلى منهج تفكير الرئيس ترامب، الذي تسيطر عليه عقلية "التاجر" الذي يجيد استغلال الفرص وعقد الصفقات، غير مبال كثيراً بالاعتبارات السياسية والاستراتيجية، فهو "رجل اللقطة" أو المشهد ويستطيع توظيف أي "صورة" في اتجاه مصلحته السياسية، لذا نجده وقد جلس مع ممثلي حركة "طالبان" وعقد معهم اتفاقاً سياسياً، بل وأشاد بنضالهم الوطني، وهذه العقلية لن تغامر مطلقاً بخوض مواجهة عسكرية ـ شاملة أو محدودة ـ ضد إيران وفي ظروف تبدو فيه القدرات والموارد الشاملة للقوة الأعظم دولياً غير مستعدة تماماً لتحمل فاتورة وخسائر هذه المواجهة مهما كانت محدوديتها وحجمها، وعلينا أن نتذكر جيداً أن الاقتصاد الأمريكي يعاني بشكل غير مسبوق، وأن هناك أكثر من 30 مليون أمريكي انضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل، ماجعل معدلات البطالة تقفز إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي، وكل ذلك لن تعالجه بالمرة أخبار تحقيق نصر عسكري محدود على نظام الملالي الايراني مهما كانت فاعلية "تغريدات" الرئيس ترامب وتاثيرها على مؤيديه وأنصاره، كما لا يجب أن ننسى أن الكونجرس الأمريكي قد ارتهن أي قرار للحرب ضد إيران بموافقة المشرعين، حيث أقر الكونجرس بمجلسيه تشريعاً يحد من قدرة الرئيس ترامب على شن حرب ضد إيران دون موافقة الكونجرس، واعتقد أن نظام الملالي يستغل هذه النقطة جيداً ويراهن عليها في ممارسة المزيد من الضغوط لإحراج الرئيس ترامب وإضعاف شعبيته.
ولاشك أن رهان نظام الملالي في هذا الإطار، والذي ينعكس بالدرجة الأولى في افتعال حوادث بحرية صغيرة في مياه الخليج العربي لاستغلالها إعلامياً لرفع معنويات النظام ومؤيديه، يبدو محفوفاً بالمخاطر، فالرئيس ترامب لا يزال يمتلك سلطة إصدار تعليمات لتوجيه ضربة عسكرية خاطفة ضد المنشآت الايرانية، وهذه مسألة لا تحتاج إلى موافقة الكونجرس باعتبارها ظرف طارىء تتعرض فيه المصالح الاستراتيجية الأمريكية لتهديد مباشر.
والحقيقة أن رهان نظام الملالي على استغلال الظروف الأمريكية الناشئة عن تفشي جائحة "كورونا" وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد الامريكي، واستغلال ذلك كله في الضغط من أجل سحب القوات الأمريكية من منطقة الخليج العربي معتقداً أن الولايات المتحدة ستشهد لحظة انكفاء استراتيجي قد تمتد لسنوات طويلة لمعالجة أوضاعها الداخلية المتردية، وانتهاز الفرص لبسط الهيمنة والنفوذ الايراني على مياه الخليج العربي، هذا الرهان محفوف بالمخاطر، ولن تسمح إدارة الرئيس ترامب ولا أي إدارة اخرى بتحققه في ظل احتدام التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين.