ويتابع العالم الصراع غير المسبوق بين المختبرات الطبية في كثير من دول العالم من أجل تطوير لقاح ضد فيروس «كوفيد ـ19» وكذلك اكتشاف علاج للمصابين به، حتى إن المختبرات المتخصصة الأكثر تقدما باتت موضع صراع بين الدول الكبرى من أجل نقل ملكيتها والاستحواذ عليها، مثلما حدث في حالة مختبر «كيور فاك»، وهو من أبرز المختبرات التي تعمل في العالم على تطوير لقاح ضد كوفيد-19، حيث سعت الولايات المتحدة إلى نقل ملكيته إليها، لولا تدخل الحكومة الألمانية لحماية هذا المختبر، الذي تنظر إليه باعتباره ركنا من أركان أمنها القومي حتى في مواجهة شريك أطلسي وليس منافس صيني أو روسي.
كما تشير تقارير عدة إلى خطط مكثفة تنفذها بعض الدول الكبرى لإغراء باحثين للانضمام إلى جهودها في مجال الطب والصحة، ناهيك عن مساع تقوم بها شركات عالمية للاستحواذ على مشروعات استراتيجية في مجال الطب والصحة بحثا عن أرباح خالية في مثل هذه الظروف مستقبلا، حتى إن المفوضية الأوروبية قد حثت دولها الـ 27 على «حماية نفسها» من تهديد فقدان السيطرة على قطاع المختبرات الطبية المتقدمة في هذه الدول، حيث دعا المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تييري بروتون هذا القطاع إلى «حماية نفسه، خاصة من مشاريع الاستثمار من دول غير أوروبية قد ترى في الأزمة الحالية فرصة للحصول على الجوهرة الأوروبية بسعر بخس».
وقد خفضت فرنسا بالفعل عتبة الاستحواذ من 33 % إلى 25 %، مع وجوب تقديم ملف الاستحواذ إلى الدولة للحصول على إذن رسمي بذلك، وكانت ألمانيا قد خفضته إلى 10 % في عام 2018، وتمت إضافة قطاعين جديدين صنفا استراتيجيين، هما الأمن الغذائي والصحافة. وفي أوروبا بشكل عام باتت قائمة القطاعات الاستراتيجية التي لا يسمح بالاستحواذ عليها بسهولة الدفاع والاتصالات والمالية والتأمين والطاقة والنقل والمياه والصحة والأمن الغذائي والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتتسارع التشريعات لحماية هذه القطاعات من مشروعات الاستحواذ الخارجي، خاصة من الدول المنافسة في آسيا وغيرها وما يعرف بالوصول الاستراتيجي للتقنية.
ما يدور في هذا الشأن هو انعكاس لأحد دروس الأزمة الراهنة، وهو درس يتعلق بإعادة النظر في فكرة الاعتماد الدولي المتبادل، الذي يعد دعامة أساسية للعولمة، فالاستثمارات لن تنتقل بسهولة كما كان يحدث في السابق، بل يتوقع ارتفاع موجة الحمائية وارتفاع صوت دعاة الانعزالية من الشعبويين والقوميين الجدد، خاصة أن الأزمة قد كشفت عن ممارسات سلبية قادها بعض الساسة بداعي حماية شعوبهم في المقام الأول، واختفى دور وتأثير التكتلات والتحالفات الإقليمية، ولا سيما في بدايات الأزمة/ الصدمة، وربما استفاق بعضها بعد زوال التأثير الأولي للأزمة، ولكن ذلك لن يزيل من ذاكرة كثيرين ردات الفعل الأولية الصادمة.
والمؤكد أن السجال في هذا الموضوع يقودنا إلى أزمة البحث العلمي في عالمنا العربي، فالفجوة الرقمية والنوعية بين مخصصات البحث العلمي في الدول العربية ونظيرتها في الدول المتقدمة معروفة، وتكفي ضغطة زر واحدة للتعرف على تفاصيل مخزية في هذا الشأن، سواء في أعداد الباحثين أو النشر العلمي أو المخصصات المالية الموجهة لهذا القطاع الاستراتيجي في مجمل الدول العربية، والأهم من ذلك أن الداء والدواء معروف للجميع في عالمنا العربي، وكتبت فيه آلاف المقترحات والتوصيات واتخذت فيه عشرات القرارات ولكن لا يزال الواقع صادما بل ومخزيا.
وفي ظل الشواهد التي تؤكد أن العالم مقبل على تحديات صعبة في العقود والسنوات المقبلة، خاصة على الصعيد البيولوجي مثلما حدث في أزمة تفشي وباء «كورونا»، الذي قد يصبح نوعا من المزاح مقارنة بما هو آت بحسب بعض الخبراء الغربيين، فإن الاهتمام بالبحث العلمي من خلال جهود جماعية مشتركة في عالمنا العربي يبدو فرضا واجبا يستحق أن يأخذ أولوية استراتيجية مطلقة، وإلا فإننا سنبقى نتابع جهود الآخرين في هذا المجال من دون أدنى إدراك لما يحمله المستقبل من مخاطر وتهديدات.