يرى البعض في بعض المواقف والأحداث الأخيرة في مسار العلاقات الإيرانية الأمريكية تغيّراً حدث في قواعد الاشتباك بين الخصمين الإستراتيجيين؛ ومن ذلك القصف الصاروخي الإيراني لقاعدة «عين الأسد» العراقية التي كانت تتمركز بها قوات أمريكية، وأيضاً إرسال ملالي إيران خمس ناقلات نفط تحمل شحنات من البنزين لدعم موقف الرئيس الفنزويلي المناوئ للولايات المتحدة، نيكولاس مادورو، فهل هذه التصرفات وغيرها مثال يبرهن على تحولات طرأت بالفعل على قواعد الاشتباك بين الجانبين؟ وهل عجزت الولايات المتحدة بالفعل عن منع ناقلات النفط الإيرانية من الوصول إلى الكاريبي وتفريغ شحنتها من البنزين في الموانئ الفنزويلية؟
الحقيقة برأيي أن الرئيس ترامب ليس سياسياً تقليدياً، فهو - كما يعرف الجميع - أقرب إلى فكر رجال المال والأعمال ويؤمن بمنطق الصفقات في إدارة العلاقات الدولية، ويغلب المصالح على ما عداها من حسابات قد يراها أهل السياسة والإستراتيجية، وبالتالي فهو لا يقف كثيراً عن مفاهيم وأفكار مثل هيبة الولايات المتحدة ولا نفوذها ولا ما يمكن أن ينال الهيبة والمكانة الأمريكية من تأثيرات سلبية بسبب مواقفه وقراراته وسياساته، بل يزن كل قرار بميزان المكاسب والخسائر الرقمية المباشرة متجاهلاً كل ما هو غير مباشر في تلك المعادلة؛ ومن هذه الزاوية يمكن فهم جميع قراراته تقريباً، فهو لا يقف كثيراً عن ترسيخ كل ما يتعلق بأفكار الردع والتفوق والسيطرة والهيمنة الأمريكية ويتخذ فقط ما يحقق مصلحته السياسية المباشرة في علاقته بالداخل الأمريكي، ولاسيما أنه يقترب من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في نوفمبر المقبل، وتتزايد لديه هواجس الفوز بولاية رئاسية ثانية يطمح إليها بشدة. وهذا - برأيي - كان الدافع الأهم لتجاهله ناقلات النفط الإيرانية وتركها تصل إلى مبتغاها علماً بأنني على قناعة بأنه لن يمرر هذه الصفقة من دون مقابل من الملالي المهووسين بالشهرة والشعارات والضجيج الأيديولوجي، وأكاد أجزم بأن هناك تفاهمات ما قد حدثت من وراء الكواليس من خلال وسطاء لضمان وصول ناقلات النفط الإيراني للموانئ الفنزويلية مقابل حصول الولايات المتحدة على مقابل ما!
هذا التحليل لا يعني في المقابل أن ترامب لم يكن يخشى تعرض القطع البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي لرد انتقامي إيراني في حال ضرب ناقلات النفط الإيرانية في الكاريبي، فهو - كما ذكرت - رجل صفقات - يدرك أن هذا الاحتمال وارد بشدة من نظام يمتلك عقلية انتحارية بامتياز، ولكنه يدرك أيضاً أن هذا النظام يضع مصالحه فوق كل اعتبار، وأنه يمكن أن يقبل بصفقة سرية من أجل الحصول على بعض الدعاية الزائفة، كما يدرك كذلك أن أي رد انتقامي إيراني سيضع إدارة - أي إدارة الرئيس ترامب - في موقف وتوقيت بالغ الحرج - وأنه لن يمتلك في حالة كهذه سوى خيار حتمي بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية ضد إيران رداً على أي عملية عسكرية ضد البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، وهو ليس مستعداً لتوقيع قرار كهذا في مثل هذه الظروف بطبيعة الحال، وبالتالي فقد تعاطي مع الموقف برمته - كفكر رجال الأعمال - وفق منطق الفرصة المتاحة، وليس منطق السياسي الذي يضع مفاهيم الردع والنفوذ والهيبة وغيرها من حسابات إستراتيجية فوق كل اعتبار.
قد يقول قائل إن كلامي يعني تغييب بقية المؤسسة الأمريكية التي تشارك في صنع القرارات الحيوية، كالبنتاجون ووزارة الخارجية والاستخبارات الأمريكية وغيرها، وهنا يمكن الإشارة إلى نهج الرئيس ترامب الذي نجح في تشكيل فريق يؤمن بمنطقه وسياساته في مختلف الملفات والعلاقات الدولية بشكل عام، وبالتالي فهو لا يواجه باعتراضات كثيرة من جانب وزارة الدفاع أو الخارجية الأمريكية، ناهيك عن أن شخصيته الصدامية التي تميل لصناعة القرار بشكل فردي تدفع بقية المؤسسات للإحجام عن الاعتراض على سياساته خصوصاً إذا كان الأمر لا يتعلق بقرارات إستراتيجية كبرى تمس مصالح الولايات المتحدة العليا، بل مجرد موقف عابر يخص إدارة العلاقات مع دولة لا ترتقي لأن تكون منافساً إستراتيجياً للولايات المتحدة.
وعلينا أن نتذكّر جيداً عند محاولة فهم قواعد الاشتباك الإيرانية الأمريكية أن ما وصفه نظام الملالي بالرد الانتقامي لمقتل الجنرال قاسم سليماني قد جاء مخيباً لكل آمال مؤيِّدي النظام الإيراني ومناصريه في المنطقة لأنه جاء رداً ضعيفاً عديم الجدوى من الناحية العسكرية والقتالية، بل مجرد تصرف لحفظ ماء وجه النظام الإيراني، وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل إن كل ما تسرّب من تقارير إعلامية معتبرة يشير إلى أن قرار المرشد الإيراني بقصف قاعدة «عين الأسد» قد تم بعد ابلاغ الولايات المتحدة عن طريق وسيط بتوقيت وحجم الضربة، والتفاهم حول تفاصيلها! أما ما يُقال بشأن تسبب الضربة الصاروخية الإيرانية في وقوع إصابات بين الجنود الأمريكيين في القاعدة فهو صحيح واعترفت به الولايات المتحدة نفسها ولكنه لا ينفي حدوث التفاهمات، بل حدث بسبب تهاون الجنود الأمريكيين أنفسهم في الاختباء وحماية أنفسهم خلال الضربة، حيث أساؤوا تقدير أثر وتبعات وقوة القصف الصاروخي الإيراني وإمكانية تسببه في إصابات غير مباشرة لهم بارتجاجات في المخ وغير ذلك، حيث يبدو أنهم فهموا أنها مجرد «فرقعات صوتية»، وبالتالي لم يحتموا بالشكل الكافي خلال القصف.
لا يجب أن ننسى أيضاً أن نظام الملالي يجيد قراءة البيئة السياسية التي تحيط بالرئيس ترامب جيداً ويدرك أنه مكبل عن اتخاذ قرار بضرب الناقلات في الوقت الراهن، وأن بإمكانها استغلال الفرصة السانحة لكسب بعض النقاط السياسية في الصراع مع الولايات المتحدة، وهذا تحقق ولو على المستوى الإعلامي، ولكن علينا ألا ننسى أن مثل هذه الصراعات لا تحسم بالضجيج بالإعلامي، بل بالنتائج الفعلية التي يحققها كل طرف على أرض الواقع، الذي يقول إن الملالي لا يزالون يئنون تحت الحصار وأن نظامهم بات أكثر معاناة رغم أطنان الذهب التسعة التي حصل عليها مقابل شحنات النفط التي أرسلها إلى الرئيس نيكولاء مادورو!