رغم أخطاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارة أزمة تفشي فيروس "كورونا" في الولايات المتحدة، وتحول بلاده إلى الضحية الأولى عالمياً للوباء، فإن فرص فوزه في انتخابات نوفمبر المقبل لم تكن قبل التظاهرات الأخيرة مثار كثير من الشكوك لأسباب واعتبارات تتعلق جميعها بطبيعة هذه الانتخابات والظروف المحيطة بها، فضلاً عن عدم وجود منافس ديمقراطي يمتلك الشعبية والقدرات السياسية التي تؤهله لانهاء رئاسة ترامب. هذا الوضع طرأت عليه تغيرات نسبية عقب اندلاع الفوضى والاضطرابات التي
اعقبت مقتل جورج فلويد ـ الأمريكي من أصل أفريقي ـ على يد عناصر من الشرطة الأمريكية في مينيسوتا؛ فلم يكن الرئيس ترامب يتخيل قبل ذلك أنه قد ينقل إلى مخبأ طوارىء في البيت الأبيض خوفاً من حشود المحتجين الهائلة أمام البيت الأبيض، حيث أقر الرئيس ضمناً بأنه نزل إلى المخبأ خلال النهار "لفترة قصيرة لتفقده". وحتى لو كذب تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الذي تحدثت فيه عن نقل ترامب إلى مخبأ مع حراسه الشخصيين، ولو صح وصف الرئيس للتقرير بأنه "كاذب" وقوله "كنت هناك لفترة قصيرة وقصيرة للغاية. وكان الأمر لفحص المخبأ ... ربما ستحتاجه في وقت ما"، فإن إقراره بأنه قد جرى التفكير في امكانية اللجوء للمخبأ يكشف عن الكثير من الدلالات.
لم يتخيل الرئيس ترامب قبل أيام أيضاً أن يتخلى عنه في هذه الأزمة الصعبة وزير دفاعه مارك إسبر حين رفض دعم فكرة نشر قوات الجيش الأمريكي لمواجهة الاضطرابات، وأعلن أن "خيار استخدام قوات مسلحة عاملة في الخدمة يجب أن يكون فقط الملاذ الأخير، وفقط في أكثر الحالات إلحاحا وخطرا. ونحن لا نواجه أيا من هذه المواقف الآن"، بل ويتنصل من كل قرارات الرئيس ترامب في إدارة هذه الأزمة معلناً أنه لم يكن على علم مسبق بها، ماتسبب في شكوك حول احتمالية اقالة اسبر، ما اضطر السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كايلي ماكناني، للقول بأن إسبر لا يزال "يمارس مهام عمله" كوزير للدفاع، وأضافت: "حتى الآن لا يزال الوزير إسبر كما هو، وإذا فقد الرئيس ثقته فيه فسوف نعلم جميعا ذلك في المستقبل"، ما يعني أن هناك فجوة قد حدثت بالفعل بين الرئيس ووزير دفاعه في توقيت بالغ الحساسية والحرج.
في مواجهة هذا الموقف السياسي المعقد، لجأ الرئيس ترامب للعب ورقة الدين، حيث التقط صورة له ممسكاً بالكتاب المقدس أمام كنيسة سانت جون القريبة من البيت الأبيض، ولكن ظروف هذه "اللقطة" تسببت له في حرج إضافي لأنها تمت بعد أن فرقت الشرطة متظاهرين سلميين أمام الكنيسة لاخلاء الطريق للرئيس، ما دفع ترامب للقول "لم أقل أخرجوهم من هنا، لم أكن أعرف من كان هناك".
بنظر شريحة من المحللين والمراقبين فإن ترامب قد أخفق أيضاً في التعامل مع أزمة تظاهر عشرات الآلاف من الأشخاص في جميع الولايات الأمريكية لأكثر من أسبوع ضد قتل الشرطة للأمريكيين السود، مطالبين بوضع حد للعنصرية والتمييز، وكانت أغلب التظاهرات سلمية، لكن بعضها تحول للعنف والسلب والنهب بسبب الفشل في احتواء الأزمة في بداياتها.
البعض يرى أن نهج الرئيس ترامب قد عمق أزمة كامنة في المجتمع الأمريكي، تتعلق بثقافة الكراهية والتحريض التي تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في بعض الولايات الأمريكية بحسب دراسات علمية معتبرة، حيث يرى خبراء أن خطاب الرئيس ترامب يسهم في تقوية شوكة المتشددين وازدياد جرائم التمييز والكراهية؛ حيث تؤكد دراسة أجراها مركز الكراهية والتطرف في جامعة ولاية كاليفورنيا، سان برناندينو، ونشرتها شبكة "بي بي سي" إلى أن هناك زيادة في معدل الحالات المبلغ عنها في كثير من المناطق الأمريكية المتعددة الثقافات منذ عام 2016 (عام وصول الرئيس ترامب للسلطة) حيث سجلت الزيادة في مدينة نيويورك نسبة 24 في المئة، وهي أعلى نسبة خلال عشر سنوات، وفي شيكاغو 20 في المئة، وفيلاديلفيا 50 في المئة ثم واشنطن العاصمة بنسبة 62 في المئة، كما خبراء إلى زيادة حالات الكراهية في المدارس بنسبة 106 في المئة.
في ضوء ماسبق وغيره، تدور تساؤلات حول فرص الرئيس ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات نوفمبر المقبل، حيث تتزايد الشكوك حول قدرته على الفوز في هذا السباق، الذي يجري وسط أجواء عاصفة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً، فضلاً عن مخاوف كثيرة تجتاح النخبة السياسية حول مستقبل الأمة الأمريكية، جراء اخفاقات الرئيس ترامب في إدارة الأزمات المتوالية، وخصوصاً حالة الانقسام والاستقطاب الحاد التي أصبح عليها الشعب الأمريكي.
احصائياً، يشير استطلاع للرأي أجرته "رويترز - إبسوس" أن معظم الأمريكيين يتعاطفون مع التظاهرات التي اعقبت وفاة جورج فلويد، ويرفضون رد فعل الرئيس دونالد ترامب عليها؛ وتوصل الاستطلاع إلى أن 64 بالمئة من الأمريكيين البالغين يتعاطفون مع من يخرجون للتظاهر في الوقت الحالي، فيما أظهرت نسبة 27 بالمئة منهم عدم الشعور بالتعاطف مع المحتجين وقال تسعة بالمئة إنهم غير متأكدين، وهي مؤشرات تكشف حجم المتاعب التي ستواجه ترامب الذي أبدى لغة عنيفة لم تفلح سوى في تفاقم الأزمة، حيث قال أكثر من 55 بالمئة من الأمريكيين إنهم لا يوافقون على طريقة تعامل ترامب مع الاحتجاجات بما في ذلك 40 بالمئة قالوا إنهم يرفضون ذلك "بشدة".
الواضح من قراءة المعطيات أن شعبية الرئيس ترامب في أدنى مستوياتها منذ توليه منصبه، فعلى مستوى الداخل هناك وضع اقتصادي متدهور جراء تفشي فيروس "كورونا" والأخطاء الكارثية التي ارتكبها الرئيس في بدايات الأزمة، وماتسببت فيه من بطالة وآلاف الوفيات والضحايا، وهناك أمة مأزمة ثقافياً بسبب تفاقم دعوات التحريض والكراهية وجرائم العنصرية، وخارجياً هناك أزمات حادة في إدارة علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وخصومها على حد سواء، وهناك تدهور في سمعة ومكانة وهيبة الولايات المتحدة ودورها القيادي ونفوذها العالمي بسبب الانعزالية التي ينتهجها الرئيس ترامب، فضلاً عن معضلة العلاقات المعقدة مع الصين.
الموضوعية تقتضي القول أن الرئيس ترامب يحتاج إلى تحقيق انجاز نوعي كبير لانقاذ فرص فوزه بالانتخابات الرئاسية المقبلة، ومن دون ذلك فإن استمرار هذه الأجواء يجعل من فرص الفوز مسألة مشكوك في تحققها لأن الانتخابات المقبلة وفق المعطيات الحالية لن تكون اختياراً بين مرشحين، جمهوري وديمقراطي، بل ستكون تصويتاً على انقاذ الأمة الأمريكية.