الانتصار مفهوم ارتبط تاريخياً بالحروب والصراعات، الساخنة والباردة، على حد سواء، ولكن مع تعقد العلاقات الدولية وبروز تحديات وتهديدات استراتيجية لا تقل تأثيراتها عن آثار الصراعات والحروب والأزمات الاقتصادية وغيرها، مثل الاوبئة والأمراض الفتاكة، انتقل المفهوم ليصبح متداولاً مقالات وتحليلات الباحثين والمتخصصين وتقييمهم لتجارب وأداء الدول في التعامل مع أزمة تفشي وباء "كورونا" عالمياً، حيث خضع هذا الأداء للحكم والقياس واستخلاص النتائج الاستدلالية على قدرات الدول في مواجهة هذا النمط غير المسبوق من التحديات الضخمة.
ورغم أن الصين كانت أوائل الدول التي حوصرت بالانتقادات وكيل الاتهامات بالفشل في التصدي لوباء "كورونا"، حتى أن الغرب قد وقف موقف المتفرج منها لأسابيع قبيل انتقال الوباء ومحاصرته للملايين في الجانب الغربي من الكرة الأرضية، وتحديداً في أوروبا والولايات المتحدة، فإن سيطرة الصين على انتشار الوباء، وانتقالها من الدفاع إلى التعاون وتقديم الدعم والعون للعديد من دول العالم ومساعدتها للتخلص من الوباء، قد منحها فرصة ثمينة للسعي لاعلان انتصارها في معركة "كوفيد ـ19"، والتأكيد على جاهزية وقدرة نظامها الصحي في السيطرة على الفيروس.
أهمية استعداد الصين لاعلان انتصارها في معركة فيروس "كورونا" تنبع من اعتبارات عدة أولها رغبتها في اثبات تفوق نموذجها التنموي الذي يتعرض باستمرار لانتقادات غربية بدعوى أن الأنظمة التنموية الغربية أكثر فاعلية وديمومة وقدرة على التعامل مع الأزمات وتوفير الأمان والحماية لشعوبها في مواجهة الظروف الصعبة، ولكن جاءت أزمة تفشي "كورونا" لتضع النموذجين، الصيني والغربي، في مقارنة حقيقية على أرض الواقع، حيث تحول الدفاع عن الذات والسعي لاثبات جوانب قصور الآخر أحد مظاهره هذه الأزمة، ولا يخفي على أحد كم الاتهامات الكبير القادم من العواصم الغربية، لوصف الصين بالتعتيم وغياب الشفافية والتستر على الأرقام الحقيقية للضحايا والمصابين، ناهيك عن تعمد التسبب في انتشار الوباء عالمياً وغير ذلك من اتهامات.
وفي مواجهة المواقف الغربية الناقدة، اعتمدت الصين استراتيجية قائمة على محاور عدة مثل السعي لتصحيح الصورة والمفاهيم وإظهار نفسها بمظهر الدولة المسؤولة التي يمكن الاعتماد عليها من خلال تقديم المساعدات والخبرات والدعم الطبي والصحي لعشرات الدول في أوروبا وآسيا وافريقيا، ثم الانتقال من موقف الدفاع إلى الهجوم والسعي لاثبات الثقة في النفس من خلال إعلان سياسي رسمي توضح فيها الصين خطتها للخروج من الأزمة والتعافي منها وإعلان استنفار قدرات التنين الصيني لاستعادة النمو والتوازن الاقتصادي وسط توقعات بأن يصل العجز في الناتج المحلي الاجمالي إلى نحو ثلاثة أضعاف ماحققه العام الماضي.
المعروف أن جزء كبير من شرعية الحزب الشيوعي الصيني الحاكم تنطلق مما الانجازات النوعية الهائلة المحققة على صعيد النمو طيلة السنوات والعقود الماضية، وبالتالي فإن الجهود جميعها تتجه نحو خطة تعافي اقتصادي ضخمة، ينتظر من ورائها أن تسهم في التعافي الاقتصادي العالمي، فالصين تمثل الرئة التي يتنفس منها اقتصاد العالم، وإذا "عطست" فقط يشعر العالم كله بالحمى وعدم الارتياح وهذا ما اثبتته أزمة "كورونا"، التي أكدت أهمية ومكانة دنيامية الاقتصاد الصيني في النشاط الاقتصادي العالمي.
الاعتبار الثاني لأهمية إعلان الصين انتصارها في المعركة مع "كورونا" تدور ضمن الصراع الأيديولوجي أو صراع النماذج المحتدم مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وهنا نلاحظ أن الأمر يتعلق بمعركة "الصورة" أيضاً، حيث تريد الصين اثبات جدارتها وتفوقها وامتلاكها منظومة قيمة وأخلاقية ظهرت في وقت الأزمة من خلال تقديم يد العون والمساعدة للدول من دون استثناء على خلاف الغرب الذي تعامل بشكل فردي طغت عليه "الأنا" وانهارت أمامه كل شعارات الوحدة والتعاون والتحالف والشراكة، وتوارى كثيراً ما يقال عن القيم والمبادىء الغربية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الانسان والشراكة مع أجل التنمية وغير ذلك من شعارات وعبارات ظلت لعقود طويلة محور النقاشات الدائرة في الغرب!
أحد العوامل الحاسمة في هذه المعركة قد تكون معركة الشفافية والمكاشفة، فالغرب يريد أن ينال من سمعة الصين ومكانتها من خلال اثبات الاتهامات التي يوجهها إليها بالكذب والتعتيم وتعمد اخفاء الحقائق حول انتشار فيروس "كورونا" في بداياته، ويعمل بكل الطرق لاثبات ذلك سواء من خلال الضغط على الصين نفسها لانتزاع اعتراف لن يصدر، أو الالتفاف عبر تحقيق دولي يستهدف تورط منظمة الصحة العالمية في اخفاء الحقائق في بدايات الأزمة والانحياز للصين في هذا الشأن.
الدبلوماسية الأمريكية تدرك أن معركة الصورة في أزمة "كورونا" مهمة للغاية، وأن الصين يمكن أن تخرج من هذه المعركة بمكاسب كبيرة لجهة الانتصار على الفيروس، لذا فإن إدارة الرئيس ترامب تسعى للعمل بذكاء من أجل تغيير معطيات الأزمة، وأساسيات الحكم على الأداء فيها من خلال التشكيك في شفافية الصين ومحاولة ترسيخ اتهامها بالكذب والتضليل واخفاء الحقائق، وهو مايفسر قول الرئيس ترامب في تفسير وجود أكبر عدد من الإصابات المؤكدة بكوفيد -19 في العالم في الولايات المتحدة بأنه "وسام شرف"، وقال ""إنني أنظر إلى ذلك على أنه شيء جيد من ناحية معينة لأنه يعني أن اختباراتنا أفضل بكثير".
ووفقاً للاحصاءات الرسمية، فقد أجرت الولايات المتحدة 12.6 مليون اختبار لفيروس كورونا حتى وقت هذا التصريح، ولكن هذا الرقم لا يجعلها الدولة الأكثر إجراء للاختبارات نسبة لعدد السكان، فالاحصاءات تقول أنها في المرتبة 16 عالمياً من حيث عدد الاختبارات لكل 1000 فرد وتسبقها دول مثل أيسلندا ونيوزيلندا وروسيا وكندا. وهكذا فمثل هذه الارقام باتت مهمة في قياس أداء الدول في مواجهة هذا التحدي العالمي الصعب.
الصين إذأّ تسعى لتعزيز صورتها الذهنية وتصحيح مانالها من سلبيات جراء تفشي الوباء العالمي من أراضيها اعتماداً على أن العبرة بـ الخواتيم" والنتائج كما يقال وتستفيد في ذلك من أخطاء الغرب تارة ومن قدراتها الكبيرة على مساعدة بقية الدول تارة أخرى، بينما يسعى خصومها ومنافسوها الاستراتيجيين إلى ترسيخ الاتهامات التي يوجهونها إليها، والحد من الخسائر التي اصيبوا بها في هذه المعركة التي لم تحسم بعد.