لم تكن ردود الأفعال الصينية حيال السياسات الغربية أكثر حدة وصرامة وغضباً من الوقت الراهن، إذ يبدو واضحاً أن التنين يتخلى تدريجياً عن حذره وهدوئه في مواقف كثيرة، حيث يلجأ الصينيون كثيراً في الآونة الأخيرة إلى خطاب سياسي خشن عند التعبير عن استيائهم من القرارات والسياسات التي تتبناها عواصم غربية عدة حيال الصين؛ فمؤخراً ـ على سبيل المثال ـ حملّت الصين بريطانيا المسؤولية عن تدهور العلاقات بعد أن فرض رئيس وزرائها بوريس جونسون حظرا على مشاركة "هواوي" الصينية في
شبكة G5 في بريطانيا، وقال السفير الصيني لدى لندن ليو شياو مينغ "هذه التصرفات سممت بشكل خطير أجواء العلاقات بين الصين وبريطانيا"، وأضاف: "بعض الساسة البريطانيين متمسكون بعقلية الحرب الباردة… ويلعبون على ما يطلق عليه تهديد الصين وينظرون للصين كدولة معادية ويهددون بانفصال كامل عن الصين حتى أنهم يجعجعون بالحديث عن حرب باردة جديدة ضد الصين"، والأهم مما سبق في هذه التصريحات أن السفير الصيني قد حذر بريطانيا من أنها لن يكون لها مستقبل لو سعت للابتعاد عن بكين، وقال "من الصعب تصور بريطانيا العالمية إذا ما تجاوزت أو استبعدت الصين… الابتعاد عن الصين يعني الابتعاد عن الفرص والابتعاد عن النمو والمستقبل". وهو تصريح لافت بالتأكيد ليس لأنه يهدد أو يتوعد بل لأنه يستعرض مكامن قوة الصين وثقتها بذاتها الوطنية وقدرتها على قيادة المستقبل.
اللغة السياسية الخشنة إذن لم تعد قادمة من الغرب باتجاه الصين فقط كما كان في السنوات القلائل الماضية، بل باتت متبادلة، سواء على مستوى الاستفزازات باستعمال كل الوسائل المتاحة، أو حتى اللجوء إلى أنماط الحرب الباردة التي كانت سائدة مع الاتحاد السوفيتي السابق من طرد للسفراء واتهامات بالتجسس وغير ذلك.
هذه التصريحات والمواقف تمثل أحد سمات المرحلة الجديدة من الصراع الصيني مع الغرب، فمن الواضح أن بكين باتت ترى أن استمرار التمسك بالتريث والحذر الزائد في إدارة العلاقات الغرب سيكون مكلفاً لها وأن هذه المرحلة تتطلب إظهار قدراً من "مخالبها" لردع الاجراءات التي تتخذ بحق شركاتها واقتصادها من بعض العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن، وعواصم أوروبية مثل لندن.
الواقع يقول أن الغرب بات على قناعة بأن الصعود الصيني المتسارع لن يتوقف، وأن تأثر التقدم والتفوق الأمريكي سلباً بعوامل معقدة عدة لن يتوقف كذلك، وبالتالي اصبح التساؤل المثار أكاديمياً على الأقل يتعلق بتوقيت وصول التنين الصيني إلى قمة النظام العالمي القائم، وهو تساؤل مهم، من دون شك، ليس لأنه يحدد شكل العالم وقواعد إدارة العلاقات بين دوله فقط ، ولكن أيضاً لأنه يعني حدوث تحولات جذرية في منظومة القيم السائدة عالمياً، بمعنى أن مايمكن تسميته بالقيم الصينية الآسيوية ستكون لها الكفة الراجحة والغلبة في مواجهة مايعرف بالقيم الغربية، وهذا يعني أن شكل العالم ومنظومات الحكم ذاتها قد تواجه احتمالية التغيير بفعل تأثير المنظومة القيمية الجديدة التي فرضت نفسها، وهي منظومة مختلفة كلياً، ولا تجمعها مشتركات كثيرة مع نظيرتها الغربية!
الصعود الصيني المدعوم بالقوة التكنولوجية والتطور العلمي يفسر ميل الخطاب السياسي الصيني إلى مساحات أكثر خشونة وميلاً للاشتباك اللفظي على الأقل مع الغرب، فلا المهادنة والارضاء والانزواء بات من سمات الأداء السياسي الصيني، ولا الهدوء والثقة في الذات وضمان استمرارية الريادة والتفوق التكنولوجي والعلمي بات من سمات الأداء السياسي الغربي.
إحدى المعضلات التي تواجه نمط التعاطي الغربي مع الصعود الصيني المتسارع تكمن في انقسام الغرب ذاته على نفسه، فالعواصم الغربية حائرة بين دعاة شن حرب باردة جديدة ضد ما يعتبرونه تهديداً صينياً، وبين ضرورة التعاون والاستفادة من العملاق الآسيوي، حتى أن الشواهد تقول بأن هناك ارتباكاً غربياً في استجابات الغرب للواقع الذي يتشكل تدريجياً في العلاقات الدولية، ومفاده أن الصين باتت لاعباً ينازع الغرب الهيمنة على النظام العالمي.
لا يستطيع الغرب بناء استجابات مشتركة للتعامل مع ما يعتبرونه تهديداً استراتيجياً صينياً للتفوق الغربي في ضوء مواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يثير الانقسامات في التحالف الأطلسي بمواقفه الصراعية مع ألمانيا وحلفاء أوروبيين آخرين، وكذلك تردده في اثبات صدقية هذه الشراكة الأطلسية، التي تصدّعت بقوة إثر نجاح الصين في انتزاع موافقة ايطاليا على الانضمام لمبادرة "طريق الحرير"، ومعارضة روما قراراً أوروبياً بإخضاع الاستثمارات الصينية في الشركات الأوروبية ذات الأهمية الاستراتيجية لفحص أكثر صرامة في المستقبل. صحيح أن المشهد السياسي الايطالي قد تغير ولم يعد الاختراق الصيني بذات القوة، ولكن التفاعلات التي خلفها أوروبياً لا تزال قائمة ومستمرة.
والحقيقة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم ينتبه كثيراً لأهمية دور الشركاء الأوروبيين في إدارة التنافس القطبي الأمريكي مع الصين، وبالتالي وضع الكثير من حلفائه الأطلسيين في مربع الحياد السلبي، بل صنع لبعضهم معضلة تموضع استراتيجي صعبة، فلا هم باتوا يثقون في الحليف الأطلسي الذي يشاطرهم القيم ذاتها، ولا هم يثقون بنوايا القوة الصينية الصاعدة. والمحصلة ـ حتى الآن ـ أن دائرة الصراع القطبي تتسع وتتمددـ، والمسألة هنا لا تتعلق بطبيعة الرئيس ترامب ورغبته في كسب ولاية رئاسية ثانية، فالقلق الأمريكي من الصعود الصيني بات واقعاً شاخصاً لا علاقة له بمواقف شخصية لسيد البيت الأبيض، وبالتالي فإن شواهد الصراع في هذه العلاقات المعقدة ستتواصل وإن اختلفت التكتيكات والاستراتيجيات باختلاف الأشخاص.