حذرنا مراراً وتكراراً من عواقب انقسام الموقف الغربي تجاه التعاطي مع الملف النووي الايراني، ونثق في أن الخلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين حول سبل الرد على الخطر والتهديد الايراني، يمثل هدية مجانية للملالي، ويمنحهم هامش مناورة استراتيجي كبير لمواصلة مخططاتهم ومشروعاتهم التوسعية الطائفية في منطقة الشرق الأوسط.
ومؤخراً، لم يفلح الجانبين الأمريكي والأوروبي في بناء رؤية توافقية مشتركة حول تفعيل آلية "سناب باك" التي تتيح فرض عقوبات أممية على نظام الملالي الايراني، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى اتهام حلفاء بلاده الأوروبيين بـ"الانحياز" إلى ملالي إيران.
يقول شركاء الاتفاق النووي الاوروبيين (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) في بيان مشترك إنهم يرون أن "الولايات المتّحدة لم تعد مشاركة في خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انسحابها من الاتفاقية (خطة العمل المشتركة أو الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بين مجموعة 5+1 وإيران) وبالتالي لا يمكن لهذه الدول "أن تدعم هذه المبادرة التي تتعارض مع جهودنا الحالية الرامية لدعم خطة العمل الشاملة المشتركة".
هذا الموقف كاشف لحجم الخلاف حول الملف النووي الايراني بين الجانبين الأمريكي والأوروبي، ولكن التساؤل الأكثر الحاحاً في هذه الجزئية يتعلق بماهية الجهود الأوروبية لدعم الاتفاق أو بالأحرى محاولة انقاذه رغم كل المؤشرات والشواهد التي تؤكد وفاته "أكلينيكياً" بحكم أن الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر تأثيراً وارتباطاً بهذا الملف الحيوي، ومن ثم كان انسحابها بمنزلة انهيار فعلي للاتفاق.
اللافت أنه رغم الدفاع الأوروبي المستميت عن هذا الاتفاق واعتباره "الآلية الأكثر واقعية"، فإن الجانب الايراني لا يقدم أي شىء من أجل دعم الموقف الأوروبي، بل العكس دائماً هو الصحيح، حيث يتعمد الملالي وضع الثلاثي الأوروبي في إحراج سياسي ويمارس ضغوطاً مستمرة لانتزاع التنازلات وابتزاز العواصم الأوروبية بهذا الاتفاق، وهي قضية يعترف بها الأوروبيون أنفسهم، ويبدو ذلك من خلال موقف رسمي تقول فيه الأطراف الأوروبية الثلاثة "نحن لا نزال ملتزمين بخطة العمل الشاملة المشتركة على الرّغم من التحديات الرئيسية التي يمثّلها انسحاب الولايات المتّحدة” من هذه الاتفاقية ونحن مقتنعون بأنّ قضية عدم احترام الإيرانيين باستمرار لالتزاماتهم المنصوص عليها في خطة العمل الشاملة المشتركة يجب أن نعالجها في إطار حوار بين المشاركين في الاتفاقية".
يعترف الشركاء الأوروبيون إذن بعدم احترام ملالي إيران لالتزاماتهم المنصوص عليها في الاتفاق، ومع ذلك يصرون على أن الحوار بين المشاركين في الاتفاق يمكن أن يعالج هذه الخروقات رغم أن الأصل في الأتفاقات القانونية الموقعة بين الدول هو الالتزام وليس الخرق المستمر للتعهدات!
الحقيقة أن الثلاثي الأوروبي يكتفي بحض ملالي إيران "على إعادة النظر في جميع أعمالها التي تتعارض مع التزاماتها النووية والعودة دون تأخير إلى احترامها بالكامل" وهذه العبارة الأثيرة المتكررة لم تجد صدى لدى الملالي منذ عام 2019، تاريخ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، ويبدو أن استراتيجية التريث التي تمارسها العواصم الأوروبية تجاه طهران في هذا الملف لها علاقة بالقلق من سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتشوش العلاقات عبر الأطلسي في هذه المرحلة.
والحقيقة أيضاً أن ملالي إيران يلتزموا بما يخصهم في الاتفاق النووي ما لم يحصلوا من الجانب الأوروبي على مايريدون من "تعويضات" ترضيهم، وهذا أمر يدرك الجميع أنه صعب التحقق في ظل الظروف والمعطيات الاستراتيجية الراهنة، وبالتالي تبقى التهديدات الايرانية المستمرة بالانسحاب من الاتفاق هي شعار المرحلة، وهذا ما أشار إليه مندوب ایران لدی الوکالة الدولیة للطاقة الذریة كاظم آبادي، حين أكد أن طهران ستتخذ اجراءات متناسبة مع التهديدات الموجهة للاتفاق النووي والقرار 2231 ، ومن ضمنها العودة الى التصميم السابق لمفاعل اراك اذا واجهت وضعا لا تستطيع معه التقدم بتطوير هذا الجزء من المنشآت النووية.
مالا يدركه ملالي إيران أن اخفاق الولايات المتحدة في تمرير مشروع قرار تمديد العقوبات ضد إيران كان بسبب مواقف وحسابات وسياسات لا علاقة لها بدعم القوى الدولية لإيران بالدرجة الأولى بل بوجود توترات في علاقات الإدارة الأمريكية الحالية مع هذه القوى، وهو مايمكن وصفه بتصفية الحسابات السياسية التي استفادت منها إيران، وهذه إحدى سلبيات وكوارث غياب التعاون والتنسيق الدولي في إدارة الأزمات والملفات الساخنة في العلاقات الدولية خلال المرحلة الراهنة.