منذ نهاية العقد الرابع من القرن العشرين، تعيش الدول العربية واسرائيل حالة صراعية خاضوا خلالها حروب عدة، انتهت إلى ضحايا وخسائر بشرية ومادية ونفسية ومعنوية وسياسية يصعب حصرها، أهمها أنها عطلت التنمية وتسببت في تردي الأحوال المعيشية والاقتصادية في دول عربية عدة، هي بالتحديد ما يعرف بدول المواجهة، وبعد كل هذه العقود والسنوات التي شهدت طي صفحة الحروب وإعلان السلام "خياراً استراتيجياً" عربياً منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، فإن هذه العلاقات لم تشهد تغيراً جذرياً طبيعتها بسبب هيمنة عقليات قديمة على كرسي قيادة هذا الصراع التاريخي!
هذه العقليات اعتادت مساراً ونمطاً تقليدياً واحداً في إدارة الأزمة حتى أنها تحولت من دون أن تدري من "إدارة" الأزمة إلى "تدويرها"، بعد أن أصبحت الأزمة وأجوائها وبقائها واستمرارها جزءاً لا يتجزأ من شرعية وجود بعض القادة والمسؤولين عن القضية نفسها. ولأن هناك الآن دولاً عربية نجحت في بناء نموذج تنموي يحاكي مايحدث في الدول المتقدمة، ومنها اسرائيل، وتتطلع للتنافس على المراتب الأولى عالمياً في مجالات التنمية البشرية المختلفة، فإن من البديهي أن تتجه هذه الدول إلى البحث عن مقاربات جديدة للتحديات والأزمات التي يعانيها النظام الاقليمي الذي يربط هذه الدول بغيرها على الصعيد العربي.
ومن البديهي أن يقود أي سعي جاد يستهدف بلورة أفكار غير تقليدية لمعالجة أزمة معقدة مثل التي تعانيها العلاقات العربية الاسرائيلية، إلى ضرورة البحث عن مشتركات يمكن من خلالها ايجاد أرضية جديدة للتفاهم والحوار والتعايش بين شعوب دول المنطقة، وهنا نجد أن الامارات واسرائيل من أكثر دول وشعوب المنطقة ارتباطاً بفكرة العيش المشترك والسعي للسلام والاستقرار، فكلا الدولتين والشعبين من الشعوب المحبة للسلام والساعية للعيش المشترك كأساس للأمن والاستقرار وتوفير المتطلبات الأساسية للتنمية والرفاه الذي تحتاجه الشعوب والأجيال الحالية والمقبلة.
وظني، أن القواسم المشتركة التي تجمع الشعبين الاماراتي والاسرائيلي أكثر بكثير من تلك التي تجمع الامارات بشعوب أخرى في المنطقة والعالم، والتجربة التاريخية تؤكد أن تشارك القيم والمبادىء الانسانية يوفر أساساً قوياً للعلاقات بين الدول والشعوب. ولاشك أن إحدى المعضلات التي تعانيها منطقتنا ليس في العلاقات مع اسرائيل فقط بل في علاقتنا ـ كخليجيين وعرب ـ مع دول أخرى اقليمية هي غياب أو تغييب مبدأ العيش المشترك لمصلحة فكرة الهيمنة والتسلط والغطرسة حيال الآخر ، وربما يبدو هذا الأمر واضحاً في حالتي إيران وتركيا وممارساتهما العدوانية التي تمثل نموذجاً سافراً لفكر الهيمنة الذي يستدعي عداءات الماضي!
في عالم اليوم، حيث تنفتح الامارات بتجربتها التنموية التي تسابق الزمن، على دول العالم كافة، لا يمكن لها أن تقصي فكرة التعاون مع اسرائيل بكل ما تمتلكه من خبرات وكوادر علمية في مجالات مختلفة، أو أن يتم التعاون عبر قنوات وسيطة، فالعزلة لم تعد خيارا مفيداً لأحد في ظل الطفرات المتسارعة في العلوم والتكنولوجيا، كما لا يمكن لنا ـ كاماراتيين ـ أن نسعى لاستكشاف المريخ وارتياد الفضاء ولا نجرب فكرة سبر اغوار جيراننا الاسرائيليين وفتح قنوات الحوار والتعاون معهم، والأهم من ذلك: كيف لنا أن نرسخ تجربتنا في التسامح والتعايش وقبول الآخر وترسيخ الحوار بين الثقافات والحضارات ونحن ننساق للقوالب القديمة التي تقيم سدوداً منيعة بيننا وبين شعب إسرائيل بكل مايضم من علماء أفذاذ وخبرات وكفاءات تقدم يومياً اسهامات ضخمة في مسيرة التقدم الانساني العالمي؟ وكيف لنا أن نواصل التقدم في مجالات الفضاء وتكنولوجيا المعلومات واقتصاد المعرفة من دون تبادل الخبرات مع اسرائيل التي حققت تقدماً هائلاً في هذه المجالات؟ وكيف لنا أن نواصل ترسيخ مكانة دولتنا كرمز للتعايش والتسامح ولا يوجد من بين أكثر من مائتي جنسية يعيشون بسلام على أرض الامارات من يحمل جواز سفر اسرائيلي؟ ثم كيف لنا أن نخرج المنطقة من عنق الزجاج وحالة الجمود التي سيطرت على عملية السلام التي دخلت في حالة وفاة اكلينيكية من دون حوار مباشر يحرك المياه الراكدة ويفتح نافذة جديدة لعل الطرف الفلسطيني المعني يستغلها في تحقيق تقدم ما في مسار التسوية السياسية للأزمة؟
شخصياً، لا أرى تعارضاً بين أن تقيم أي دولة عربية أو جميع الدول العربية، سلاماً مع إسرائيل وبين حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعه، فالحوار في حالة وجود روابط ومصالح مشتركة سيكون بالتأكيد أسهل وأفضل نتائجاً مقارنة بانعقاده في أجواء مشحونة بالغضب والتوتر والقطيعة. وعلى سبيل المثال، فالعلاقات المباشرة بين العرب واسرائيل ستسهم في تذويب الجليد، وتوفير فرص افضل للسلام، وتنزع من التطرف والارهاب أحد أخطر الأوراق التي يتم استغلالها من أجل تحويل منطقتنا ودولنا إلى ساحات صراع مزمنة لمصلحة أنظمة تقتات على الشعارات ولا تمتلك خططاً تنموية أو مشروعات استراتيجية قادرة على توفير متطلبات التنمية في دولها.
سبعة عقود مضت الآن من الصراع العربي الاسرائيلي، على وتيرة واحدة، أسيرة لأفكار بائدة، ومعتقدات لا مجال لها في السياسة والعلاقات بين الدول والشعوب، ولا يمكن لطرفين مثل الامارات واسرائيل أن ترتهنا مستقبل أجيالهما المقبلة بخطاب تعبوي متشنج منتهي الصلاحية ومنزوع الفائدة ولم يعد يصلح سوى من أجل فئة المتخندقين حول شعارات الماضي والمزايدين على قضية هم أول من أضر بها وساوم عليها.
وقد اعتدنا في دولة الامارات أن نبتكر مسارات للمستقبل، والكثير من هذه المسارات لا تلقى هوى في نفوس أسرى الماضي والأفكار البالية من العرب وغيرهم، شاهدنا ذلك عندما أطلقنا "مسبار الأمل" وعندما صعد أول رائد فضاء إماراتي لوجهته العلمية والبحثية غير المسبوقة عربياً وخليجياً، ولذا لا نفاجىء كثيراً بردود أفعال لا تدرك فلسفة عملنا ورؤيتنا للمستقبل، فنجن ندرك أن الجميع سيلحق بنا يوماً ما بعد ان يدرك صواب رؤيتنا ورشادة فكرتنا.