رغم أن الكثير من المحللين والمراقبين قد اعتبروا المناظرة الأولى التي عقدت بين الرئيس دونالد ترامب والمرشح الديمقراطي جو بايدن هي مناظرة "الاهانات الشخصية" بامتياز، فإن الواقع يشير إلى أنها لم تخرج كثيراً عن نسق الكثير من المناظرات الانتخابية في جولات الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة على مر التاريخ، صحيح أن حدة الاهانات الشخصية قد ارتفعت في هذه المناظرة لعاملين أساسيين اولهما الأجواء المشحونة وغير المعتادة التي عقدت فيها المناظرة، ولاسيما الاتهامات الشخصية المتبادلة التي سبقت المناظرة، وثانيهما طبيعة المرشحين وحجم الخلافات السياسية غير المسبوقة بين الرئيس الجمهوري والنخبة في الحزب الديمقراطي، ولكن الحكم عليها يبقى في إطار كونها عقدت في أجواء غير مألوفة وبين شخصيتين أحدهما سياسي غير تقليدي (الرئيس ترامب) والآخر شغوف للغاية بالنجاح في محاولته الثالثة والأخيرة للوصول لمقعد الرئاسة في البيت الأبيض.
والواقع أن الاهانات الشخصية التي طغت على المناظرة الأولى هي أحد أبرز مظاهر التغير الحاصل في الثقافة السياسية والانتخابية الأمريكية، وهي ثقافة لا تقتصر على المناظرات بل تبدو في مجمل المشهد السياسي والحزبي، حيث تعددت الاهانات الشخصية التي تتجاوز حد النقد السياسي والحزبي والكل يتذكر حجم الاهانات المتبادلة بين الرئيس ترامب ورئيسة مجلس النواب الأمريكي الديمقراطية نانسي نانسي بيلوسي.
مجمل النقاط الخلافية التي اشتبك حولها الرئيس ترامب مع منافسه الديمقراطي في الانتخابات المقبلة جو بايدن، جاءت كما هو متوقع حول روسيا وتعامل الإدارة الأمريكية الحالية مع جائحة "كورونا" وقضية إصلاح نظام الرعاية الصحية وسبل انعاش الاقتصاد الأمريكي وإخراجه من الكبوة التي سببتها أزمة "كورونا".
لعل أقسى الاتهامات التي وجهها المرشح الديمقراطي بايدن للرئيس ترامب جاءت على خلفية العلاقات الأمريكية ـ الروسية، حتى أن بايدن وصف الرئيس الحالي بـ"جرو" الرئيس بوتين، واعتقد أن المرشح الديمقراطي قصد الذهاب للحد الأقصى من الدراما السياسية في هذه النقطة من أجل إرباك منافسه الجمهوري، ودفعه للانفعال وعدم التركيز في بقية نقاط المناظرة، وهو ماحدث بشكل ملحوظ في بقية المناظرة.
المناظرة بالشكل الذي خرجت به لم يكن متوقعاً لها أن تحدث تغييرات كبيرة في مواقف الناخبين، ولا اعتقد كذلك أن بقية المناظرات ستحدث فارقاً لأن المواقف والآراء باتت تتشكل وفقاً لعوامل أكثر تأثيراً مثل مدى التأثر بالواقع الاقتصادي والاتجاهات الشخصية حيال أداء إدارة الرئيس ترامب في أزمة "كورونا" ومعالجة حوادث كارثية كادت تعصف بأسس التماسك الاجتماعي الأمريكي مثل تباطؤ البيت الأبيض في التصدي لحوادث طغى عليها طابع العنصرية.
لذا فإن المناظرتين المتبقيتين قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لن تكونا ـ برأيي ـ عاملاً مرجحاً في التصويت ولا اتجاهات الرأي العام الأمريكي، فالأغلب أن المناظرتين القادمتين ستكونان نسخة مكررة من المناظرة الأولى، لأن الأجواء بين المرشحين لا توفر أي فرصة لعرض موقف سياسي واضح ومحدد حيال أي قضية داخلية أو خارجية، ولذا تبدو المناظرات مثل مشاحنة شخصية يصعب السيطرة عليها، ويتحول الأمر إلى استعراض شخصي للمواقف والآراء ومن ثم يمكن الانزلاق إلى مربع التجريح والاهانات الشخصية.
ورغم أن نتائج استطلاعات الرأي تشير في مجملها إلى تفوق المرشح الديمقراطي بنحو عشر نقاط، فإن التجربة الأخيرة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز فيها الرئيس ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، توفر لنا درساً مهماً بشأن الحذر من الافراط في الثقة في نتائج استطلاعات الرأي، حيث تبدو الأجواء الحالية شبيهة بالأجواء التي سبقت انتخابات 2016، بالاضافة إلى أن الرئيس ترامب يبدو غير مهيىء لتقبل أي خسارة انتخابية بسهولة، وقد يٌقدم على أي قرار أو تحرك مفاجىء في السياسة الخارجية على وجه التحديد، بما يعزز فرص فوزه بتلك الانتخابات، أو على الأقل يجعل من الصعب على الناخب الأمريكي التصويت بالتغيير في الظروف التي قد تنشأ عن أي قرار أو تحرك محتمل مثل خوض حرب أو اندلاع أزمة مع دولة كبيرة أو غير ذلك.
المؤكد في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة أنها ستشهد حالة غير مسبوقة ليس فقط من حيث الظروف والبيئة السياسية التي تنعقد فيها فقط، ولكن أيضاً لما يمكن أن تشهده من ردود فعل غير مسبوقة ولا مألوفة في السياسة الأمريكية، ومن المهم للغاية أن ندرك أن توقيت الانتخابات في نوفمبر المقبل قد يكون أحد عوامل الترجيح بجانب اتجاهات أزمة تفشي فيروس "كورونا" في الداخل الأمريكي، حيث تتسارع التطورات، وتثور التساؤلات حول مدى استعداد الناخب الأمريكي لتقبل التغيير في حالة تفاقم أزمة "كورونا" في إطار موجة ثانية محتملة، ما يجعل الانتخابات وفكرة التغيير على المحك.